قصة قصيرة من كتابي ماء و دم

وكيفَ يغيبُ من لا يغيب؟
أعني كيف تنسى ذلك الذي حل بك محل الروح من الجسد فغَدى بَعضُهُ كُلَّكْ وكُلَّهُ كلك وكل ما تملك وما تحب؟
حكاني أحدهم عن كتاب غابر يحتوي قصص البشر الذين لم يحكي قصصهم أحد.. عن البشر حين كانوا في بداياتهم في هذا العالم فكانوا يتعرفون على مشاعرهم كما يتعرف الطفل الوليدُ على العالم من حوله..
من أجمل القصص التي حكاني عنها قصةٌ تمتليء بالشوق، بدأت مئتي عام بعد وفاة شيث ولد آدم.. كان هناك رجل يحبه كل من في القرية شيبا وشبابا.. أطفالا ونساء وكان شديد الحكمة حتى أنه كان يذكرهم بجدهم شيث .. كان يجلس كل ليلة يحدثهم بأسرار هذا الكون، وحيث كانت القرية في واد بين الجبال فإنهم كانوا يظنون ان الكون كله في ذلك الوادي وأن لا شيء هناك سوى الفراغ خلف تلك الجبال! إلا أن حكيمهم كان يخالفهم في ذلك.. حتى أنه ارتحل يوما في سفر إلى ما وراء الجبال وعاد لهم بأشياء لم يألفوها من ذي قبلُ أبدا.. وكان يعيد ذلك السفر كثيرا لا يرافقه أحد.. ولما طالت غيبته في أحد تلك الأسفار.. افتقده أحباؤه.. وكانوا قبله لا يعرفون معنى الفقد.. ذلك أنهم لم يفقدوا سوى من مات.. فهم كانوا يرون الميت ميتا بأم أعينهم..  

فاحتاروا في شعورهم الجديد هذا ولم يدروا ما يصنعون به! فهو لم يمت حسب علمهم والذي لا يموت لا شك يعود.. ذلك ما يقول أحد حوارييه وكان يُدعى (أُوَيْس).. أقسم أويس أن حبيبهم سيعود فالغائب دوما يعود.. لكن السؤال متى؟! وتطاولت السنون ولم يعد حكيمهم هذا فنساه الجميع إلا أويسا هذا.. بل اشتد فيه شعوره هذا حتى أصبح يدعى بالمجنون.. ذلك أنه كان يدعو ربه طوال يومه ليعود حبيبه، حتى أنه ترك أهله وماله وكل ما يملك لا لشيء إلا لعودته.. 
وكان يصيح دائماً.. إلهي خذ كل ما عندي وكل ما أحب إن كان ذلك سيعجل لقياي به مقدار رمشة عين واحدة!
سألوه ذات مرة
ما الذي تحس به يا أويس؟ ماذا يجري بك؟))
قال: إنني أراه دائماً حين نومي.. فَصِرْتُ كثير النوم.. فَلَمْ يصدقه قومه إذ لم يخبروا الأحلام من ذي قبل!
وإنني أراه ما إن أغلق عيني حتى في يقظتي، ذلك أنني أتمثله حولي ما كأنه رحل.. ويا ليتني مغلقا عيني عن رؤياكُمُ طيلةَ يومي..
وإنني وقت الربيع أشتم رائحته في هبوب الرياح وحين هطول المطر فأذكره بشدة وكأنه حولي بل وأستذكر محادثاتنا وكأنني أتحدث معه.. ربما أصبح جزءا من هذي الرياح.. لذلك كنتم ترونني أقبض على رياح الربيع ورياح المطر بيدي علي أقبض عليه! وكنتم تحسبونني مجنونا إذ كنت أفعل ذلك!
وإن صدى صوته في سمعي و لمسة يديه الحانية على كتفي حين كنا نودع بعضنا كل مساء!
فإذا كان صوته هنا ووجهه هنا في عيني حين أغلقها ورائحته هنا.. كيف يمكن أن لا يعود؟ أخبروني بالله عليكم؟
أنتم المجانين إن كنتم تعتقدون أن كل ذلك لا يعني شيئا!
ومنذ ذلك الحين وقومه يسمون من يعيش هذه المشاعر بالمشتق.. ويعني أنه انشق مما كان فغدا شخصا آخر.. أنه انشق من عقله فصار مجنونا.. ومع مر السنين سهلها اللسان إلى كلمة الشوق.. فالشوق ضرب من الجنون.. فلا يشتاقُ من يشتاقُ بعقله بل بقلبه.. والقلب مصدر جنون الإنسان.. ولا أجمل من جنون العشق يا صديقي..

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s