پونت دي ڤيچيو

يرى خلال تلك النافذة حقولا خضراء جميلة قديمة قدم التاريخ كله! كيف لا وهي بساتين تسكاني الريف الإيطالي العريق! هنا كان يتقاعد جنرالات الرومان ليعملوا بالزراعة بعد حياة حافلة بالشجاعة. يتركون الدماء إلى الماء! هكذا هي حياة الإنسان دوما تنتقل بين الماء والدم وهما متضادان! علم يوسف ذلك في جراحات السرطان حين كان الپروفيسور بنهاية العملية يغسل البطن بالماء كانت الإمعاء تغرق بالمياه التي تنسكب من بطن المريض على قدميه أحيانا! فيسأل البروفيسور ما السبب لغسلك بطن المريض بهذا المقدار من الماء! فرد عليه قائلا أن الماء يقتل كل الخلايا السرطانية التي لا نراها في البطن.. الماء قاتل للخلايا إن خرجت عن طوع الجسم! الماء منه خلق كل شيء حي فإن خرج الشيء عن الحياة قتله الماء! يبدو أن أحد قوانين الطبيعة أن القريب إذا أصبح عدوك فإنه أشرس عدو والحبيب إن عاداك فعدوانه من النوع القاتل! الحبيب قاتل بحبه أو بكرهه لا فرق بينهما! يوسف هنا منذ شهر، أراد أن ينسى من أحب.

 رفض أبوها أن يتزوج منها وعندما وافق وتقدم لها رفض أهلها التزويج! فأراد أن ينسى بطريقة أو أخرى!
أدرك فداحة خطئه في اختيار فلورنسا للنسيان على جسرها الشهير ڤيچيو عندما استذكر بداية الكوميديا الإلهية لدانتي شاعر فلورنسا الأول حيث يبتدؤها بحب من أول نظرة ثم رؤياه للإله ولها حتى غادرت فلورنسا من دون أن تعلم بحبه لها.

 ما أجمل العشق حين لا تستطيع الوصال؟! حين تناجي من تحب وتمني النفس باللقيا في عالمك هذا أو عالم الأحلام أو عالم الآخرة! حين تحاول تصور من تحب، أينه الآن ماذا يفعل أهو في راحة أم لازالت تطارده هموم الزمن والآلام؟ متى ترانا ونراك؟!
كل هذه الأفكار تسارعت في مخيلته وهو ينظر خلال النافذة بعد استيقاظه من النوم في الكوخ الريفي الذي استأجره! هذا آخر يوم له في تسكاني وسيغادر ذات الليلة عائدا إلى الولايات المتحدة حيث يتخصص بجراحة العظام في جامعة تولان بلويزيانا! لا يزال وحيدا رغم سنوات عمره التي ناهزت الثلاثين! رغم أخلاقه الجميلة وسهولة معشره! رغم رغبة الكل في زواجه من أي من شاء إلا تلك التي أُعجِبَ بها.. هو ملتزم بدينه وأخلاق مجتمعه فلم تكن معرفته بها أكثر من إعجاب بأخلاقها وسلوكها و انجذاب شديد جعله لا يضيع وقته بما يقوم به شباب هذه الأيام! لذلك أراد الزواج بها مباشرة فهذه هي أخلاق الفرسان التي عود نفسه عليها!
أكثر ما يقلقه هو تعلقه الشديد بها ويقينه أنه لن يجد مثلها! هو ليس وحيدا حين تكون ذكراها هي معه! وهي لا تعلم ذلك فتحسب أنه نسيها وذلك تعمد منه حتى تذهب وشأنها لتسعد في حياتها! أقسم هو أن لا يبحث مرة أخرى! أقسم أن يصبح كزهور الربيع لا تتزحزح من مكانها مهما كان الثمن!
وضب حقيبته وشعاع الشمس يتسلل من نافذته كرموش ذهبية! رمشها الطويل كان كذلك! انتظر سائق الأجرة الذي سيقله للمطار! وكروم العنب تتراءى أمامه تصطف متناسقة لا عوج فيها! هي كانت كاملة متناسقة في كل شيء! كوب قهوته الذي احتساه في طريقه إلى المطار كان بنيا تشوبه شقرة ان مر عليه ضوء الشمس! لون عينها كان كذلك! ورائحة الورود على مدخل المطار تتمايل مع الريح بكل رقة كأنها هي.

الكرسي بجانبه في الطائرة كان خاليا! ماذا لو كانت تجلس بجانبه وكان هذا هو انقضاء شهر عسلهم! طرد هذه الفكرة من مخيلته بغضب! لا لن ينتهي أبدا شهر عسلي معها!
نعم
كل شيء كان يذكره بها! نسي ما كان يفكر به قبلها! أعادت هي تعريف الأشياء له وأصبح يراها في كل شيء مهما كان صغيرا! وهي لا تعلم عن ذلك شيئا! تحسبه بفلورنسا يستطعم ما لذ وطاب له!
انطلقت الطائرة وبعد خمس ساعات من الإقلاع حين كانت بمنتصف المحيط الأطلسي تماماً! ارتفع صوت ماكرفون الكابتن بصوت قلق يستدعي أي طبيب على متن الطائرة لراكب بالدرجة الأولى!
نهض يوسف من مكانه على عجالة!
وصل إلى مقاعد الدرجة الأولى معرفا عن نفسه: يوسف جراح عظام هكذا باقتضاب وبنبرة واثقة! المضيفتان تحيطان بشخص طويل القامة يتنفس بسرعة ويشتكي من ألم بصدره!
لا يوجد أي جهاز بالطائرة سوى جهاز إيصال الصدمات للقلب وجهاز قياس النبضات وضغط الدم! نبضه كان ١٢٠ وضغطه كان عاليا كذلك ١٩٠/١٠٠!
أراد قياس نسبة الأكسجين بالدم فلم يعمل الجهاز!
أنفاس هذا المريض تتسارع هي الآن ٢٤ نفس بالدقيقة!
سأله عن تاريخه الطبي فكان تاريخا صحيا جداً! هو بالخامسة والأربعين من عمره وليست به أي أمراض!
خرج الكابتن من مقصورة القيادة فقال له يوسف أن عليه الهبوط بأقرب مطار حيث قد تكون هذه سكتة قلبية!
أقرب مطار هو مطار هاليفاكس بنوڤا سكوشيا بكندا ويبعد ٣ ساعات!
ماذا يفعل يوسف الآن!
ماذا يمكن أن يكون التشخيص ان لم تكن سكتة قلبية!
قد يكون شيئا بالجهاز التنفسي!
لكن ماهو الشيء بالجهاز التنفسي الذي يحدث فجأة ويؤدي إلى انقطاع النفس هكذا؟! 

أصبح وجه المريض أزرقا وتسارعت أنفاسه وانخفض ضغطه!
إنه يموت!
يا ليتها كانت هنا فهي طبيبة ذكية جداً فيما يتعلق بأمراض القلب وأنا جراح عظام! أنا ميكانيكي أبدل المفاصل وألحم العظام ببعضها البعض!

 أو هكذا كان زملاؤه بالجراحة العامة يعيرونه!
إنه يموت الآن وأنا أفكر بها! هي لا تترك لي شيئا!
إن كانت هذه جلطة بالرجل انتقلت لرئته فهو ميت لا محالة! لكن ماذا لو كان هذا (تنشن نيمو)؟
(تنشن نيمو) يحدث عندما

يخرج الهواء خارج الرئة فيضغط عليها وتصغر لتصبح ككرة غولف! وقد يزيد الهواء فيضغط على القلب ويعصره ليموت الإنسان! 

انتبه فجأة ودب الأدرينالين في عروقه! نزع ملابس المريض فورا ووضع أذنه مباشرة على صدر المريض فلم يستمع لأي صوت للرئة بالجانب الأيمن! ثم ضرب على صدر المريض بأصابعه فارتفع صوت له صدى يشبه دقة الطبل!
إنه تنشن نيمو بالجهة اليمنى!
يجب أن يضع أنبوبا بالجهة اليمنى!

 لكن لا يوجد أي أنبوب او حتى سكين هنا!
المريض يموت

كان معه علاق حديدي للملابس أعطته إياه هي عندما نسي معطفه بغرفة الخفارة ذات مرة! ماذا يفعل به الآن هذا ليس وقت التفكير بها!
فجأة أتته فكرة مجنونة
فل العلاق وجعله حديدة طويلة كان حادا بنهايته! 

أعطاه الكابتن سكينا!

 لا شعوريا ودون تفكير غرز السكينة بصدر المريض كقاتل محترف ثم ادخل العلاق المستقيم داخل الصدر حتى سمع صوت خروج الهواء كبالون تم تفجيره!
شهق المريض وأخذ بالسعال بعد أن تحسن لونه! خلال خمسة 

دقائق رجعت أنفاسه ل١٧-٢٠ بالدقيقة وتحسن نبضه وضغطه! كل الطائرة أصبحت تهنؤه على ما أنجز!
تصفح وجوههم فلم يجد وجهها الجميل معهم!

 أنتم كلكم لا تعنون لي شيئا إن لم تأتوا بها معكم!
هي في كل أشيائي لم تبق لي شيئا!

6 آراء حول “پونت دي ڤيچيو

  1. شعور رائع ان نرى شخص يستطيع بإسلوبه ان يغوض بنا بهذا العمق في كتاباته حتى نحس بأننا جزء منها.. شكرا لك

  2. اتابع كتاباتك بصمت, حتى قراءة هذه القصة…قلبت فيني المواجع
    “هو في كل أشيائي لم يبق لي شيئا”

  3. قصة رائعة … مليئة بالسرد الداخلي للمتحدث
    اسمح لي ان أكمل بالانجليزية :
    There is a lot of inner speech of the protagonist weaved into descriptions of sights and sounds. It carried a lot of events in such short text which I thought was well crafted. Reference to Danté Florence fitted nicely with the theme of lost love.

  4. Ur words are written in such a way that we can feel every single sound sight and emotiom as if we are a part of that story ….. I don’t think world can contain a second copy of you doctor ….. proud to be able to get through ur sentence proud to have an inspiration and role model like u
    Much love and respect

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s