0

جعفر بن أبي طالب ذي الجناحين في كربلاء

((أيها الملك، كنا قومًا أهل جاهلية، نعبد الأصنام، ونأكل الميتة، ونأتي الفواحش، ونقطع الأرحام، ونسيء الجوار، يأكل القوي منا الضعيف.. فكنا على ذلك حتى بعث الله إلينا رسولاً نعرف نسبه وصدقه وأمانته وعفافه))..

لما استفحل العذاب على المسلمين الأوائل في مكة وضاق عليهم العيش هاجروا إلى الحبشة في هجرتين بأمرٍ من الرسول صلى الله عليه وآله حتى إذا فَنِيَ المسلمون في مكة كان هناك من يستطيع استكمال الرسالة في مكان آخر.. ولعل ذلك يبين شدة العنف الذي تعرضوا له الذي وصل لمرحلة قد تمحيهم عن بكرة أبيهم.. ومن شواهد ذلك الإضطهاد حصار شعب أبي طالب الذي استمر ثلاث سنوات على بني هاشم فلا يُباعُ لهم شيء ولا يُشتَرى منهم شيء.. فظلوا جياعا محاصرين لا يخالطهم أحد..

وكانت بداية المقال مقطعا من خطبة جعفر بن أبي طالب ردا على النجاشي..حيث ابتعثت قريش رسلا إليه ليغوونه بتسليم المهاجرين إليهم.. وفي تلك الخطبة ردود بليغة تبين لب رسالة الإسلام التي جاءت لرفع الظلم عن الناس وترك عبادة البشر قبل الصنم..

عاد جعفر بن أبي طالب إلى المدينة والتقى برسول الله الذي كان يحبه حبا جما فقال جملته المشهورة (لا أدري بم أفرح: بقدوم جعفر أم بفتح خيبر) ولم يلبث ابن أبي طالب إلا سنةً واحدة حتى أرسله رسول الله (ص) قائدا على جيش مؤتة فكان أسطورةً فيها.. وهو الذي عقر فرسه بعد أن أحيط بهم من جيش الروم الجرار..فقطعت يمينه ثم شماله حتى قتل.. وكني ذي الجناحين بعد أن قال الرسول(ص) أن لجعفراً جناحينِ في الجنة..

وفي كربلاء إذ ابتدأ الإمام الحسين (ع) خطبته قبل المجزرة التي جُزِرَ فيها آل رسول الله أذكرهم بمن يكون:

ألست ابنَ بنتِ نبيِّكم ، وابنَ وصيِّه وابن عمِّه وأَوّل المؤمنينَ المصدِّقِ لرسولِ اللّهِ بما جاءَ به من عندِ ربِّه ، أَوَليسَ حمزةً سيدُ الشُهداءِ عمِّي ، أَوَليسَ جعفر الطّيّارُ في الجنّةِ بجناحَيْنِ عَمِّي ، أوَلم يَبْلُغْكم ما قالَ رسولُ اللهِ لي ولأخي : هذان سيِّدا شبابِ أهلِ الجنّةِ؟!

وأشبه العباس بن علي بن أبي طالب عمه جعفر الطيار بأفعاله فكان حامل اللواء في كربلاء وقطعت يمينه فأعلى الراية بيساره فقطعت حتى قتل.. وهو الذي كان حارسا لنساء آل رسول الله اللاتي كُنَّ في كربلاء فلما قُتِل كل الرجال أصبحن أسارى وكن أول سبيٍ في الإسلام.. نعم.. بعد أن نهى الإسلام عن سبي النساء ذلك الفعل الجاهلي.. كان أول سبي في الإسلام سبي آل رسول الله صلى الله عليه وآله وعلى رأس تلك النساء زينب بنت علي بن أبي طالب وبنت فاطمة بنت محمد النبي (ص).. وهي زوجة عبدالله بن جعفر بن أبي طالب أول مولود للمهاجرين في الحبشة و الذي قتل أبناؤه عون ومحمد في كربلاء (أحفاد جعفر الطيار)..

وأحسن الشريف الرضي في شعره عن تلك الفاجعة:

ما راقبت غضبَ النبيِّ وقد غدا   ***   زرع النبي مضنّة لحصادِها

نسلُ النبيِّ على صعابِ مَطيِّها   ***   ودم النبي على رؤوسِ صعادِها

نسل النبي من النساء تم سبيهن على الجمال (المطايا) الهزيلة و دماء النبي على الرماح التي كانت ترفع أمامهن رؤوس أبناء رسول الله محمد بن عبدالله (ص).

إن لكل أمة فاجعة ومصيبة تلخص آلامها وتكون الذكرى لها حتى لا تحيد عن البوصلة.. وهكذا هي كربلاء فاجعة أمة محمد بل فاجعة الإنسان التي لا يماثلها شيء..

وروى الترمذي والنسائي في صحيحيهما بالاسناد إلى بريدة كان رسول الله (صلى الله عليه وآله) يخطب فجاء الحسن والحسين وعليهما قميصان أحمران يمشيان ويعثران فنزل رسول الله (صلى الله عليه وآله) من المنبر فحملهما ووضعهما بين يديه ثم قال صدق الله {أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ} نظرت إلى هذين الصبيين يمشيان ويعثران فلم أصبر حتى قطعت حديثي ورفعتهم..

وفي كربلاء بعد نحر الحسين جالت الخيول عليه حتى تكسرت عظامه..

يا غَريبَ الدِيارِ صَبري غَريبٌ

وَقَتيلَ الأَعداءِ نَومي قَتيلُ

بي نِزاعٌ يَطغى إِلَيكَ وَشَوقٌ

وَغَرامٌ وَزَفرَةٌ وَعَويلُ

لَيتَ أَنّي ضَجيعُ قَبرِكَ أَو أَن

نَ ثَراهُ بِمَدمَعي مَطلولُ

لا أَغَبَّ الطُفوفَ في كُلِّ يَومٍ

مِن طِراقِ الأَنواءِ غَيثٌ هَطولُ

مَطَرٌ ناعِمٌ وَريحٌ شَمالٍ

وَنَسيمٌ غَضٌّ وَظِلٌّ ظَليلُ