7

لماذا اخترت تخصص الجراحة؟

يسألُني الكثير من طلبة الطب أو الذين تخرجوا حديثاً من الطب عن كيفية اختيار التخصص الأمثل ولا شيء أكثَرَ حيرةً في الطب من اختيار التخصص.. لا أستطيع أن أشرح لكم الليلة كيفية اختيار التخصص لكنني أستطيع أن أحدثكم عن كيفية اختياري لتخصص الجراحة..

هنا قد أخيب ظنكم بعض الشيء.. لم تكن في خططي أبدا أن أكون جراحا.. بل كنت أحب الباطنية منذ أول يوم دخلت فيه الطب.. ذلك أن الباطنية سهلة الفهم نوعا ما وأقرب لما يدرسه الطالب، فكل ما عليك فعله هو القراءة فإن لم تفهم، اقرأ أكثر حتى تفهم.. أما الجراحة فكانت غير مفهومة بالنسبة لي.. هناك فلسفة فيها قد تغيب على أذهاننا كطلبة.. كما أن ما تشاهده في بطن الإنسان الحقيقي يختلف كليا عما تقرأه في كتب التشريح أو تراه في أجساد الأموات التي نشرحها في مادة التشريح.. كرهت في الجراحة الوقوف لساعات طويلة من خلف أجساد الجراحين وهم يجرون العمليات.. كانت رجلي تؤلمني من كثرة الوقوف.. تكون خلفهم ولا ترى شيئا وبعد ثلاث ساعات حين يكتشفون شيئا مميزا يتذكرون وجودك فيستدعونك لتقترب لثوان معدودة حتى تشاهده.. لم أكن أحب غرفة العمليات حين كنت طالبا.. ولذلك تصيبني الدهشة حين أشاهد الطلبة الذين يحبون غرفة العمليات.. ثبتهم الله.

إذاً لماذا اخترت تخصص الجراحة؟ لعدة أسباب بعضها أسباب قد تكون صغيرة جدا وغير مهمة بنظر البعض لكنني أؤمن أن أهم شيء في هذه الحياة هي الأشياء الصغيرة التي قد لا يُقيمُ لها البعض وزناً.. أحدها أن أستاذتي في التشريح كانت روسية تتكلم بلكنة إنجليزية وكأنها إحدى ساحرات الملك آرثر (عمرها كان ٦٥ يمكن) وكان الغموض يملؤها فقالت لي ذات مرة أنني سأكون جراحا لأن يدي تتحرك كأيدي الجراحين.. أعتقد أنها لم تعني ما كانت تقول لكن (قصت علي) وبذرت في عقلي بذرة الجراحة.. ثم كان أكثر من أعجبت بهم في الكلية جراحا شهيرا كان رئيس كلية جراحي أدنبرة البروفسور يونغسون فكان مرشدي منذ اليوم الأول للكلية.. تراه فتكتشف من اللحظة الأولى أنه من صنف آخر من الأطباء.. هدوؤه وهيبته وحنانه مع مرضاه كانت شيئا لا مثيل له.. ونمت علاقتنا كتلميذ وأستاذ حتى كان هو من كتب لي رسالة الترشيح الجميلة التي جعلتني أدخل كمعيد في جامعة الكويت وكطبيب جراحة في جامعة مكجيل.. الدراسات في مجال تخصص الأطباء كلها تشير أن القدوة التي تتخذها في الكلية هي من سيؤثر التأثير الأكبر على تخصصك..

اكتشفت في آخر سنة لي في الكلية الجمال الهائل في هذا التخصص.. كمية الأدرينالين الرهيبة التي تضخها في عروقك خلال عمليات الحوادث الطارئة لا يساويها شيء في أي تخصص آخر حين تسمع صوت الدم من شدة نزفه، هل سمع أحَدٌ منكم صوت الدماء؟.. لا شيء يعادل حماسة تلك العمليات إلا أن تكون جنديا في معركة والرصاص ينهمر حولك من كل حدبٍ وصوب.. تخيل كيف كنت تنزل من قطار الموت في المدينة الترفيهية.. هل تتذكر كمية الأدرينالين في دمك حينها؟ تخيل معي ذات الشعور لكنك يجب أن تتحكم به وتعمل بكل دقة حتى تنقذ من أمامك.. شعور بالجليد والنار في آنٍ واحد.. وهناك فرصة لك أن تكون بطلا في أي وقت في هذا التخصص ففي أي لحظة قد يحدث شيء خارق للعادة ولا أحد سواك مسؤول عن ايقافه! تخصص الجراحة العامة بتفرعاته هو الوحيد الذي سيعطيك هذا الشعور لكثرة عمليات الطواريء فيه فهو التخصص المسؤول عن جراحات الحوادث والكوارث والحروب.. فإن كنت مغامرا.. محبا للتحديات فذلك التخصص الذي لن يخيب ظنك أبدا.. والجميل في الجراحة أنها تخصص رياضي.. تعتمد فيه على الممارسة.. لذلك من الصعب عليك فهمه كطالب للطب لكنك ما ان تمارسه ستكتشف جماله.. وسترى نفسك وهي تتطور بسرعة خيالية.. ستعود طفلا يتعلم المشي (الجراحة) ثم لا يتذكر كيف تعلمه سوى في لحظة يركض فيها ماراثونا قاسيا فيحمد الله الذي جعله يفعل ما فعل بعد أن كان طفلا لا يقوى حتى على المشي..

أما آخر الأسباب وأهمها أن والدتي وخالتي أصيبا بسرطان الثدي في ذات السنة.. حين كنت في سنتي الثالثة في الطب.. فكنت أريد معرفة الإجابات كلها عن ما يجري.. توفيت خالتي رحمها الله بعد انتقال السرطان الى كبدها.. هنا لم أكن أدري لماذا لا يستطيع الجراحون استئصال الكبد حين انتقال السرطان اليه.. فتخصصت بالجراحة والسرطان والكبد حتى أستطيع أن أجيب على أسئلتي حين كنت طالبا.. ولا شيء أجمل في هذه الحياة من العلم بعد جهل.. ولا شيء أجمل من سؤال أمي لي هل تستطيع اجراء ذات العملية التي أجروها لي.. فأجيبها ضاحكا (اسويها وعيني مغمضة).. والحمد لله على كل حال..

0

أول مولود من زراعة رحم

معجزة علمية حدثت للمرة الأولى قبل اسبوعين وتم الإعلان عنها اليوم في مجلة اللانست العلمية العريقة.

ولدت أول امرأة طفلا.. الخبر عادي حتى الآن.. لكن السر في رحم الإمرأة.. رحمها ليس رحمها بل رحم مزروع قبل سنتين من متبرعة حية عمرها ٦١ سنة..

الإمرأة ولدت من دون رحم لذلك لم تكن تستطع الحمل والولادة فقام الأطباء بعمل تلقيح صناعي وزراعة رحم لها ولأن مبايضها موجودة وتعمل فقامت مبايضها بتهيئة الرحم رغم أن عمر الرحم المزروع أكثر من ستين عاما.

و تم الحمل سنة بعد زرع الرحم وولدت طفلا طبيعيا لكن عشرة أسابيع قبل موعد الولادة المقرر وتمت الولادة بعملية قيصرية.

الطفل والأم الآن بالمنزل و رحمها لازال يعمل.. أشرف على هذا السبق الطبي فريق من جامعة غوتنبرغ بالسويد.

أنظر كيف يفعلون المستحيل لأجل إيجاد الحياة وانظر كيف نفعل نحن المستحيل في قتل الحياة..

المهم.. يبيله بعد ما نبلش برنامج زراعة الكبد بالكويت نزرع أرحام👍

1

نحن نحجُّ كما نموت..

ألا ليتَ الشَّجٓر.. هذا الشَّجَرْ.. يحس ببعضِ ما فينا.. إنه قد لا يتذَكَّرُ ولا ينسى بينما نحن نتذكرُ ولا ننسى! وكيف ننسى المرة الأولى التي زرنا فيها ديار الحبيب محمد أم النظرة الأولى لبيت الله العتيق والملايين تتشابه وهي تطوف حوله؟!

ذلك الشعور الملح أن محمدا كان هنا.. وفي كل شبر من تلك الأرض خطوةٌ خطاها وكلمةٌ منه تردَّدَتْ بيت تلك الديار والجدران.. أنه ظل فيها سنوات طوالاً يُعَذَّبُ ويُطارَدُ ويُقتَلُ أصحابه ومن يحب من دون مقاومة حتى أذن الله له بالهجرة والدفاع عن نفسه.. فلما فتحها توجه نحو البيت العتيق عافيا عن كل من ظلمه.. فكانت أول أفعاله العفو وأوضح سجاياه الرحمة والصفح.. ذلك الشعور الملح أن حبيب الله محمدا كان هنا.. أن المحبوب الأول للرب من بين كل البشر.. المحبوب الأول من بين أولئك الذين كانوا وسيأتون.. كان يمشي هنا.. شعورٌ عظيمٌ لا يساويه شيء..

أما الحج ففيه أسرارٌ وفلسفة لا يستطيع مثلي أن يبينها فلست عالما بدين الله وقد لا تكون أفعالي تلك التي تقربني منه.. لكنني أدري أننا نموتُ كما نحج.. نموت لا تكسونا سوى أكفان ذات قماش رخيص الثمن.. نموت وحدنا.. نموتُ غارقين في الوحدة ولو كانت حولنا ألوف المحبين.. نموتُ كلنا متشابهينٓ كما نحج.. فحين يقف القلب ويصفر الوجه وتبرد الأطرافُ تصبح الوجوه متشابهة.. وحتى إن لم تتشابه يوم موتها فإنها حتما تتشابه جدا في القبور بعد أن يبلى الجسد.. نموت كما نحج.. لكننا من دون زادٍ من أفعالنا في ذلك الموت.. فلندخر حب مُحَمَّدٍ زاداً فلا شك أن شفاعته منجية وأن النار وإن استطاعت حرق أجسادنا فإنها تخشى المساس بالروح التي تحوي بين طياتها حب محمد ومن أحب محمدا.. السلام على محمد رسول الله وعلى أحباب محمد من الأولين والآخرين..

6

دراسة الطب المخيفة

أصعب ما بدراسة الطب ليس الطب نفسه بل القلق المصاحب له.. فدائما ما تسأل نفسك هل سأنجح هذه السنة أم لا.. لم أكن أسأل نفسي ما إذا كنت سأتخرج أم لا.. فالتخرج حلم بعيد.. والسبع أو الست سنوات التي كنا سنقضيها في الكلية كانت تساوي ما يقارب أنصافَ أعمارنا حين دخلنا الكلية لذلك كنا نفكر سنةً بسنة!

وحين بدأت دراستي للطب في اسكتلندا كانت لغتي الإنجليزية سيئةً جدا رغم أنها كانت لغتي الأولى قبل العربية حتى نسيتها حين عدت طفلا في الخامسة من أمريكا إلى الكويت.. المهم أنها كانت سيئة جدا لدرجة أني لم أتحدث مع أحد من الطلبة لمدة ثلاث سنوات وذلك مذكور في كتاب التخرج.. لذلك كانت الصعوبة علي مضاعفة ولكي أتخلص من هذا القلق قلت لأبي أنني سأعتبر السنة الأولى فسحة وأنني عائد إلى الكويت لا شك في نهايتها.. عودة لا رجوع بعدها لاسكتلندا.. بل إنني بعد ثلاثة أشهر من الدراسة راسلت كلية طب الأسنان في بوسطن للنظر في كيفية التحويل..

كل ذلك أدى لتقليل القلق.. قلت لنفسي أن هناك أشياء أخرى أستطيع فعلها.. إن لم أصبح طبيبا فتلك ليست نهايةَ العالَم.. الطب ليس أهم شيءٍ في الحياة.. بل إن أهم شيء في الحياة أن أكونَ مطمئناً من دون خوف.. ما فائدة الشهادة هذه إن جعلتني أعتاد القلق والخوف؟! والعيب ليس في السقوط لأول مرة والرجوع إلى الكويت بل العيب كل العيب أن تزول سعادتي من أجل اهتمامي بكلام الناس.. هؤلاء الناس لن يفيدونني في شيء ولن يضروني في شيء أبدا.. وحتى إن عدت من دون نجاحٍ إلى الكويت فذلك ليس من شأنهم إطلاقا.

ثم قمت بتغيير عادات دراستي فبينما كنت لا أدرس إلا ليلة الإختبار في الثانوية قررت أن أدرس ثلاث ساعات يوميا كنت أقضي أغلبها في ترجمة الكلمات بجهاز بدائي جدا عام ٩٨. ولما رأيت ثمار ذلك في نتائجي الدراسية زدت ساعات الدراسة ووجدت أنني كلما زدتها كلما تحسنت النتائج أكثر لكن الأهم من ساعات الدراسة التحكم بالخوف والقلق.

الخلاصة عزيزي طالب الطب.. يجب عليك أن تكون مطمئنا وأن لا تكترث بكلام الناس وأن تتصور أسوأ النتائج من دون أن يثير ذلك فيك شيئا.. فالحياة أكبر وأهم من أن تعيش فيها تعيسا بسبب الخوف من الفشل.. حينها ستنجح وتبدع بكل سهولة ويسر!

1

كتبت عن يارا الجميلة

لم تَكُنْ تدري وهي تَلبَسُ هذا الثَّوْبَ.. كم مرةٍ بعدها سترتديه.. ولم تكن تدري متى ستكون أعظم مناسبةٍ ترتدي فيها مثل هذا الثوب الأبيض.. ولعلها.. أقولُ ولعلها سَرَحَتْ في فكرها بعيداً وهي تحدق بكل هذا الجمالِ في هذه الصورة.. سرحت.. حتى تخيلت فارسها الذي سَيُمْسِكُ بِيَدِها حينَ ترتدي الثوبَ الأبيَضَ الحقيقي الذي يشبه ما شاهدته أو سمعت عنه في أساطير الأميراتِ وغيرهن! وتَمَثَّلَت أباها.. صبغَتْ بعضَ شَعْرِهِ لَوْناً كاللؤلؤِ أبيَضاً.. حتى تعطي حلمها عن عُرسِها قليلاً من الواقع.. تمثلت أباها سعيداً وهو يزفها لفارس الأحلامِ ذاك..
لكنني لا أدري.. ما الذي تفكرت به في اللحظاتِ التيّ سَبَقَتْ مَوْتَها.. يارا قتلها الصهاينةُ قبلَ يَوْمَيْن.. فقتلوا فيها كل ذلك الجمال والأحلام.. فكانَ شعر أبوها أسوَداً يَوْمَ عرسها.. لم يكن كما اللؤلؤ!

She had no idea when she was wearing this dress, how many times in the future would she wear it again. She did not know when is the most important (white dress) occasion would come..
I bet that she daydreamed when she took this picture with all this beauty of that day.. I bet she did!
She day dreamt that he took her hand.. A handsome gentleman like those she saw in fairy tales.. After all she looks like a fairy tale princess and she only deserves her match! She also imagined her dad.. But she painted his hair with a pearly color.. To give some reality to her dream.. She imagined that it was her dad most happy day ever!
I do not know however, what she thought about moments before she was killed.. Yara was killed by the Israelis two days ago.. They killed all this beauty cold blooded.. Her dad hair color was black during her wedding in the skies.. It was not pearl colored like she imagined!

4

لإبني ذي الثماني سنوات

ستلتقي يا بُنَيَّ بأشياءَ كثيرةٍ حينَ تَكبُرْ.. أشياءَ رغم خيالكَ الواسعِ هذا لم تَكُنْ تتصور أنها سَتوجَدْ.. ليس من فرطِ جمالها بل من فرط شرورها.. ليست الحياة كما يصورونها لك فيما تحب مشاهدته.. إنها لا تنتهي بالنهايات السعيدةِ إلاّ نادراً.. وإن أبطالَ الخيرِ فيها ليسوا بقوة أشرارها.. إنهم أقل مالاً وعتاداً ونفوذاً.. كما أنهم لا يلبسونَ من تلك الملابس الملونة الفاخرة التي تعشق شراءها! بل إنك كلما رأيتَ مزركَشاً حلو الكلامِ فخرَ الثيابِ فعليكَ الحَذَرُ منه! إن خيرَ هذا العالمِ في البُسَطاءِ والفُقَراءِ الذينَ لا يعرفهم أحد.. أولئكَ الَّذِينَ يَرحَلونَ دونَ صَخَبٍ كشمسِ الصباح وقمر هذا الليل..

و إن أكثر الأشياءِ جمالاً في هذه الحياة أكثَرُها قُبْحاً و أكثَرُها نَفعاً أكثرُها ضرَراً وأكثرُها حلاوَةً أكثرُها مرارة.. وهكذا الناس.. سيكونونَ أكثَرَ من يجلب لَكَ الحزن.. لكنَّ بعضَهُم سيكونُ أكثَرَ من يجلب لك السعادة.. لذا كانت أعظم الفنون التي عليك تعلمها فنون مخالطةِ البشر.. أدري عشقك للحيوان.. لكن مخالطة الحيوانات أسهل بكثير من مخالطة البشر وإن شئت أن ترى ذلك بأم عينيك فما عليكَ إلا أن تَكبُرْ!

يقول الشاعر الإنجليزي الحائز على نوبل (كيپلينج) في قصيدته (إف) لإبنه: يا بني لن تكون رجلا إلا حين تخالط البشر ولا تتغير للأسوأ!

لكنك لن تكون حزيناً فالحصول على السعادة سهل جدا لكنه يحتاج ألف شيء صغير لا تحس به.. منها أن تستمتع برائحة الأرض هذه بعد أن غسلتها مياه المطر، ومنها أن تقبل أطفالك كل ليلة ومنها أن لا تشتكي كثيرا من سوء طعام المطعم الذي سيصطحبك إليه صديقك!

واعلم أن أسوأ أيامكَ قد فات.. حين قبضت عليك عرياناً مختنقاً أزرَقَ اللون.. حتى أننا احتجنا الطبيب ليجعلك تتنفس.. وما إن دخل الهواء جوفك حتى أطلقتَ صرخةً عالية أسأل الله في هذه الليلة أن لا تُطلِقَ مثلها أبدا!
وإن نظرت إلى كل الأشياء بعين الرضا… إن استطعت أن ترى الشيء القبيح فتتذوق الجمال الذي فيه فقط كمن يأكل الشوكولاته المغلفة بالملح فلا يحس إلا بحلاوتها من دون الملوحة! إن استطعت فعل ذلك فإن الله سيجعل كل الأشياء الصغيرة حولك مصدر سعادة هائل… حينها فقط ستنام قرير العين!

1

موضوعٌ ممل جدا.. فلسطين

كنتُ سأكتب الليلة عن أي شيء إلا ما سأكتب عنه في السطور التالية.. لكنني خفت أن أُساءَلَ يوماً ما.. أنتي كتبت عن كل شيء.. عن السماء والأرض والوجوه الجميلة المُوَرَّدة ولم أكتب عنها!

الأشياءُ التي نفعلها.. كل شيء تفعله له أسبابٌ تستطيع أن تشرحها للآخرين.. لكنك إن بحثت بعمق.. إن بحثتَ في قاع نفسك.. في الأماكن التي لا يصلها الضوء والأماكن التي لا يعلم عنها أَحَدٌ شيئاً.. إن بحثت في تلك الأماكن ستجد شيئاً مكنوناً.. سراًّ قد يبدو صغيرا في البداية.. لكن ذلك السر فعلا هو الدافع الحقيقي لما تفعل.. كل ما هنالك أنك لا تستطيع البوحَ به أحياناً وأحياناً أخرى لا تستطيع التعبير عنه.. وهكذا كل شيء في الحياة يجري لسر مكنون.. هل يعلم الشجر لم يُثمِرُ بعضه صيفا كالنخيل ويثمر بعضه الآخر في الربيع؟ هل يدري الشجر لِمَ يُثمِر؟! حين تفكر في تلك الأسئلة قد تبدو لك أسئلةً مملة.. لكنها واقعاً تُجيبُكَ عن حقيقة الأشياء!

والقدس وفلسطين يا صديقي أصبح موضوعا مملا جدا.. مللنا الحديث عنه.. لأننا كلما تحدثنا عنه لا نفعل شيئا..
القدس سر أمتنا وسر أمم الأرض كلهم.. ألا ترى أن أكثر الأشياء سرا وغموضا ورمزية في ديننا كان معراج الرسول منها؟ إن سر الإنسان وحقيقته تتجلى في رسول الله وإن سر الأرض في القدس.. فكانت هي مجمع أسرار الإنسان والأرض! كيف يفرط أيا كان بمفاتيح الأسرار كما فرطنا نحنُ فيها؟!

هل تدري يا صديقي أن نيوتن العالم الشهير بعد اكتشافاته العظيمة ترك علم الفيزياء وكل العلوم ثم أفنى بقية حياته في دراسة القدس من كتب العهد القديم والجديد حتى يكتشف موعد ظهور المسيح وموعد نهاية الأرض؟! وهل تدري أنها من تحرك سياسات العالم الحديث، إذ أن من يسيطر على عالمنا اليوم أمريكا ومن يسيطر عليها هم اليمينيون المسيحيون الذين يؤمنون أن مسيحهم لن يخرج إلا إذا كانت محتلة من اليهود؟! هذا كلام لم أقرأه وإنما عشته وتناقشت فيه معهم حين كنت أعمل في الولايات المتحدة!

وإنها اليوم محل اختبار الإنسانية حيث تتحطم أمامها كل ادعاءات المدنية الغربية الحديثة.. هذه المدنية التي لا تقيم لدمي ولا لدمك وزناً.. ها أنت ترى ذلك كل يوم أمام عينيك على وجبة فطورك الذي تزدحم بالأطعمة كما تزدحم فلسطين اليوم بالدماء.. وها أنت تسمع ذلك بأذنيك من مذياع سيارتك الفارهة التي تزدحم بالرفاهية كما تزدحم فلسطين اليوم بالصراخ!

أدري ان موضوعي الليلة ممل جدا وأدري أن البعض ربما ترك قراءة هذا المقال إذ سمع كلمة فلسطين.. لكنك يجب أن تهتم بها.. فإننا وإن لم نحررها فإن موعد دخولنا مرة أخرى مسألة وقت.. سيخرج من أصلابنا رجالٌ ونساءٌ أكرمَ منا.. سيحررونها.. لكنهم سيلعنونا يوماً إن قرأوا ما كنا نفعل حين كانت تغص بالموت والدم ولعب الأطفال المحطمة والقلوب المحطمة..

القدسُ يا صديقي سر وجودك.. إنها السر الدفين الذي أوجدنا وأوجد هذه الأمة.. فلا تغض الطرف عنها.. إنها محل النفس في نفسك!

1

القرآن حقيقة ثابتة والعلم ليس حقيقة بل متغير لا يثبت

العلم الذي في مُتَناوَلِ أيدينا محدودٌ جداًّ ولكن الإعلام يصور لنا وكأن العلم هذا المحدود أساس الحياة فبعد النهضة الأوروبية والنهضة الصناعية التي تزامنت مع الإلتزام بالتجارب لإثبات العلم بدأ الغرب يصور لنا وكأن العلم قد تطور كثيرا وكأن العلم في هذا العصر استبدل الدين فأخذ يصور لنا أن الأولين لجهلهم آمنوا بالمعجزات وبالرسل وبالإله.. لكن الواقع هو أننا جاهلون جدا.. لا نزال جاهلين جدا! فعلى سبيل المثال نجد أن الغالبية العظمى من الحقائق العلمية التي كانت تُدَرَّسُ في منتصف القرن السابق أصبحت وهما واكتشفنا خطأها.. خذ عندك قرحة المعدة التي وجدنا في أواخر الثمانينات من القرن السابق أن سببها غالبا جرثومة وليس زيادة إفراز الأحماض من المعدة وقد نال مكتشف تلك الحقيقة جائزة نوبل على اكتشافه هذا!
وفي أول يوم لي في كلية الطب قال لنا أحد الأساتذة في اسكتلندا حيث كنت أدرس، أن خمسين بالمئة من كل ما نتعلمه الآن في كلية الطب يتغير بعد عشرة سنوات وتحل حقائق أخرى مكان ما تعلمنا! لذلك كان واجباً على الطبيب أن يقرأ ويدرس يوميا حتى لا يفوته تطور الحقائق!

كل ما سبق هو مقدمة للرسالة التي أود إيصالها لك عزيزي القاريء وهي (أنك يجب أن لا تلصق العلم لصقا بالحقائق القرآنية والنبوية)!

لأننا آمنا بالقرآن وبالرسول إيمانا قلبيا لا نحتاج فيه لعلم حتى نؤمن به أكثر! فلو أراد الله جعل القرآن كتابا علميا لكانت هناك ألف طريقة أخرى لذلك.. ولأن العلم يتغير يوميا ولأن القرآن ثابت فمن الخطأ إلصاق الحقائق العلمية لصقاً بالقرآن والسنة ففي ذلك فتح لمجال واسع أمام المشككين ليشككوا أكثر في القرآن والسنة حيث أن العلم الحديث يعتمد على التشكيك دائماً وما هو حقيقة اليوم في العلم قد يصبح غدا أكذوبة!

نحن لا نصوم ونصلي لأن الصلاة تمرين رياضي ولا لأن الصوم له فوائد صحية بل لأننا نؤمن بحكمة الله ونؤمن أن الحياة الحقيقية ليست هذه الحياة بل الحياة التي تتلوها وأن الصحة الحقيقية هي صحة الأرواح!
فكن مؤمناً يا صديقي أن ما لديك هو الحقيقة الثابتة التي لا تحتاج أي حقيقة أخرى لإثباتها ولا تشتر بآيات الله ثمناً قليلا!

2

الطب طريقة حياة

في حياة كل إنسان وقفات يُراجِعُ فيها ما فاتَ و يَتَطَلَّعُ فيها لِما سَيَأْتي! وغالبا تُصاحب هذه الوقفات مناسبةٌ هائلة ويكون سبب هول المناسبة شدة المشاعر المرتبطة فيها كالحزن الشديد أو الفرح الشديد..

اليوم كانت هناك مناسبة شديدة السعادة حيث كان حفل تخرج ما يقارب التسعين طبيبا وطبية من كلية الطب في جامعة الكويت، فاستذكرت هذه الكلمات ويا ليت أحداً حدثني بها حين تخرجي الذي كان قبل عشر سنوات من اليوم هذا.

الطب الحقيقي ليس مهنةً بل طريقة حياة، فالمهنة هي تلك التي تحدها الساعات.. والطب لا يحده شيء.. ستعود إلى منزلك بعد يوم شاق ومرهق.. لم يخبرك أحد أنه شاق ومرهق.. لا أحد غيرُكَ أنتَ سيعلم مدى صعوبة ذلك اليوم وكم كانَ شاقاًّ ومُتعِباً،فتجلس على مائدة الغداء.. ثم تتطلع في الفراغ من خلال النافذة التي تطل عليها طاولة الطعام.. وتستَذكِرُ كم كُنتَ آمناً في زَمَنٍ مضى.. حينَ لم يكن يقلق صفوَ تفكيركَ شيء.. أما الآن فالهواجس لا تترُكُك أبدا.. التفكير في المريض الذي أتى العيادةَ بإصفرارٍ في وجهه.. هل هو بسبب السرطان أم أنها حصوةٌ مرارية عادية؟ وذلك الذي يؤلمه صدره هل هو بسبب مرض القلب أم الحموضة مع توتر في عضلات المريء؟ وذلك الشاب الذي مات بعد حادث السيارة.. هل كان هناك شيء ما يمكنكَ فعله، لكنك لم تفعله؟! كل هذه الهواجس جزء من الطب..

كما يجب عليك الإطلاع دائماً واستكشاف المزيد من العلم دائماً حيث أن خمسين بالمئة من المعلومات التي درستها تصبح معلومات خاطئة بعد عشر سنين فقط من دراستها.. فالطب في تطور سريع جدا.. إن لم تقرأ في الطب يوميا.. لن تكونَ طبيبا ناجحا!

ولعل أهم ما عليك فعله هو أن تكون متعاطفا مع مرضاك فتبين لهم أقصى اهتمامك.. فإنهم لا يعلمون كم كان يومك شاقا ولا يعلمون أن شابا توفي قبل لحظات أمامكَ قبل أن تتجه إليهم لأنهم يشتكون من الإمساك مثلاً.. وإنهم قد لا يعلمون أنك تفكر بهم غالب يومك.. عليك أن تكون مصغيا لهم بأقصى درجات الإهتمام والتعاطف وتتناسى كل ما حولكَ ومن تكون..

وهكذا يكون الطب طريقة حياة.. سيجعلك تنتقل من حالة إلى أخرى بلمح البصر.. ستصبح لديك قدرة هائلة في فهم الحياة وقدرة هائلة على التحكم بمشاعرك.. تنتقل من الإشتعال كحمم اللهب إلى التجمد كجبال الجليد من دون أن يَرُفَّ لَكَ جفن!

وأخيرا فإن أهم صفتين عليك التحلي بهما لتكون طبيبا ناجحا هما صفتي الشجاعة والتواضع فهما أكثر الصفات الصادقة.. الصفات الأخرى تستطيع تمثيلها وخداع الناس بها لكن الشجاعة والتواضع صفات صادقة جدا كما يقول الفيلسوف والأديب الألماني الأشهر (ويرثر). والطب الحقيقي سيمنحك هاتين الصفتين.. واعلم أن الطبيب الذي لا يتحلى بهما ليس طبيبا حقيقيا على الإطلاق! فلا تتكبر على مرضاك أيا كانوا ومهما كانت حالتهم المادية ولا تجبُنْ حين يُحيطُ بكَ الموت.. أنتَ عدو الموت!

6

نعطي من قلب

ما يميز الأحلام أنك تنتظرها بفارغ الصبر، لكن الصبر على الحلم يختلف في أنه صبر لا ملل فيه بل كلما طالت مدة الإنتظار كلما زادت الحاجة بل زاد الشوق لهذا الحلم لأن الإنتظار يغذي الشوق دائماً! فلا يقطع الإنتظار شيءٌ سوى الموت ربما.

ولا يوجد حلم بشري يفوق حلم المريض بفشل عضو في عضو جديد يعيد له الحياة. إن أقرب شيء لإعادة الحياة هو زرع الأعضاء وتستطيع رؤيتها واضحة جداً في المصابين بفشل الكبد الذي يجعل الإنسان يعيش في غيبوبة وعدم قدرة على التنفس بسبب تجمع السوائل بالبطن وهبوط بالسكر نتيجة فشل الكبد في التحكم في سكر الجسم و نزيف بالدم بسبب عدم قدرة الكبد على إنتاج المواد التي تؤدي لتجلط الدم.

كل موتٍ سيء..لكن لا يوجد موت أسوأ من الموت بفشل الكبد أو الكلية أو الأعضاء، خصوصا حين تعلم وأنت جراح زراعة أعضاء أن ذلك الموت كان من السهولة تلافيه لو تبرع الناس بأعضائهم.

ذات يومٍ اتصلوا بنا عندما كنت أقوم بزمالة زراعة الأعضاء في مونتريال بكندا للقيام بعملية جلب أعضاء من متبرع متوفى. الصدمة عندما سمعت اسمه فقد كان طبيب قلب يعمل معنا في ذات المستشفى!

كان شابا لم يتجاوز الثلاثين من عمره وكانت زوجته ولدت قبل وفاته ببضعة أشهر طفلتهم الوحيدة، لكن الوقت لم يسعفه فتوفي و هو طبيب القلب بفشل القلب، فأبى إلا أن يتبرع بأعضائه السليمة؛ الكبد والكليتين والقرنية والرئتين. قمنا بأنفسنا بعملية جلب أعضائه وهي عملية معقدة! إن جلب الأعضاء ليست عملية فوضوية فأقل جرح قد يتلف العضو، وإننا في تلك العملية نمارس أقصى المهارات الجراحية ونعامل المريض المتبرع المتوفى أفضل معاملة ممكنة كما لو نعامل مريضا حيا! كان جو العمليات حزينا جداً! وحين تكون حزينا جداً حينها تحاول الهروب من الحزن في التفكير بشيء جميل وذلك معنى أن مع العسر يسرا فحلاوة هذه الدنيا مرتبطة بمرارتها ومرارتها مرتبطة بحلاوتها! ولا شيء أجمل من التفكير بمن ستنقذه أعضاء زميلنا هذا!

أحد من أنقذهم زميلنا ذلك اليوم كان طفلا لم يبلغ الثامنة على وشك الموت من فشل الكبد! هل هناك أجمل في أن تهدي عشرات السنين من عمرك لتحيي طفلا؟! وعمرك هذا قد مضى! أنت حين تهدي هذه الحياة تكون ميتا فعلا!

ما أروع أن ترى بأم عينيك ذلك: ميتا يهدي الحياة! ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا!