0

جعفر بن أبي طالب ذي الجناحين في كربلاء

((أيها الملك، كنا قومًا أهل جاهلية، نعبد الأصنام، ونأكل الميتة، ونأتي الفواحش، ونقطع الأرحام، ونسيء الجوار، يأكل القوي منا الضعيف.. فكنا على ذلك حتى بعث الله إلينا رسولاً نعرف نسبه وصدقه وأمانته وعفافه))..

لما استفحل العذاب على المسلمين الأوائل في مكة وضاق عليهم العيش هاجروا إلى الحبشة في هجرتين بأمرٍ من الرسول صلى الله عليه وآله حتى إذا فَنِيَ المسلمون في مكة كان هناك من يستطيع استكمال الرسالة في مكان آخر.. ولعل ذلك يبين شدة العنف الذي تعرضوا له الذي وصل لمرحلة قد تمحيهم عن بكرة أبيهم.. ومن شواهد ذلك الإضطهاد حصار شعب أبي طالب الذي استمر ثلاث سنوات على بني هاشم فلا يُباعُ لهم شيء ولا يُشتَرى منهم شيء.. فظلوا جياعا محاصرين لا يخالطهم أحد..

وكانت بداية المقال مقطعا من خطبة جعفر بن أبي طالب ردا على النجاشي..حيث ابتعثت قريش رسلا إليه ليغوونه بتسليم المهاجرين إليهم.. وفي تلك الخطبة ردود بليغة تبين لب رسالة الإسلام التي جاءت لرفع الظلم عن الناس وترك عبادة البشر قبل الصنم..

عاد جعفر بن أبي طالب إلى المدينة والتقى برسول الله الذي كان يحبه حبا جما فقال جملته المشهورة (لا أدري بم أفرح: بقدوم جعفر أم بفتح خيبر) ولم يلبث ابن أبي طالب إلا سنةً واحدة حتى أرسله رسول الله (ص) قائدا على جيش مؤتة فكان أسطورةً فيها.. وهو الذي عقر فرسه بعد أن أحيط بهم من جيش الروم الجرار..فقطعت يمينه ثم شماله حتى قتل.. وكني ذي الجناحين بعد أن قال الرسول(ص) أن لجعفراً جناحينِ في الجنة..

وفي كربلاء إذ ابتدأ الإمام الحسين (ع) خطبته قبل المجزرة التي جُزِرَ فيها آل رسول الله أذكرهم بمن يكون:

ألست ابنَ بنتِ نبيِّكم ، وابنَ وصيِّه وابن عمِّه وأَوّل المؤمنينَ المصدِّقِ لرسولِ اللّهِ بما جاءَ به من عندِ ربِّه ، أَوَليسَ حمزةً سيدُ الشُهداءِ عمِّي ، أَوَليسَ جعفر الطّيّارُ في الجنّةِ بجناحَيْنِ عَمِّي ، أوَلم يَبْلُغْكم ما قالَ رسولُ اللهِ لي ولأخي : هذان سيِّدا شبابِ أهلِ الجنّةِ؟!

وأشبه العباس بن علي بن أبي طالب عمه جعفر الطيار بأفعاله فكان حامل اللواء في كربلاء وقطعت يمينه فأعلى الراية بيساره فقطعت حتى قتل.. وهو الذي كان حارسا لنساء آل رسول الله اللاتي كُنَّ في كربلاء فلما قُتِل كل الرجال أصبحن أسارى وكن أول سبيٍ في الإسلام.. نعم.. بعد أن نهى الإسلام عن سبي النساء ذلك الفعل الجاهلي.. كان أول سبي في الإسلام سبي آل رسول الله صلى الله عليه وآله وعلى رأس تلك النساء زينب بنت علي بن أبي طالب وبنت فاطمة بنت محمد النبي (ص).. وهي زوجة عبدالله بن جعفر بن أبي طالب أول مولود للمهاجرين في الحبشة و الذي قتل أبناؤه عون ومحمد في كربلاء (أحفاد جعفر الطيار)..

وأحسن الشريف الرضي في شعره عن تلك الفاجعة:

ما راقبت غضبَ النبيِّ وقد غدا   ***   زرع النبي مضنّة لحصادِها

نسلُ النبيِّ على صعابِ مَطيِّها   ***   ودم النبي على رؤوسِ صعادِها

نسل النبي من النساء تم سبيهن على الجمال (المطايا) الهزيلة و دماء النبي على الرماح التي كانت ترفع أمامهن رؤوس أبناء رسول الله محمد بن عبدالله (ص).

إن لكل أمة فاجعة ومصيبة تلخص آلامها وتكون الذكرى لها حتى لا تحيد عن البوصلة.. وهكذا هي كربلاء فاجعة أمة محمد بل فاجعة الإنسان التي لا يماثلها شيء..

وروى الترمذي والنسائي في صحيحيهما بالاسناد إلى بريدة كان رسول الله (صلى الله عليه وآله) يخطب فجاء الحسن والحسين وعليهما قميصان أحمران يمشيان ويعثران فنزل رسول الله (صلى الله عليه وآله) من المنبر فحملهما ووضعهما بين يديه ثم قال صدق الله {أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ} نظرت إلى هذين الصبيين يمشيان ويعثران فلم أصبر حتى قطعت حديثي ورفعتهم..

وفي كربلاء بعد نحر الحسين جالت الخيول عليه حتى تكسرت عظامه..

يا غَريبَ الدِيارِ صَبري غَريبٌ

وَقَتيلَ الأَعداءِ نَومي قَتيلُ

بي نِزاعٌ يَطغى إِلَيكَ وَشَوقٌ

وَغَرامٌ وَزَفرَةٌ وَعَويلُ

لَيتَ أَنّي ضَجيعُ قَبرِكَ أَو أَن

نَ ثَراهُ بِمَدمَعي مَطلولُ

لا أَغَبَّ الطُفوفَ في كُلِّ يَومٍ

مِن طِراقِ الأَنواءِ غَيثٌ هَطولُ

مَطَرٌ ناعِمٌ وَريحٌ شَمالٍ

وَنَسيمٌ غَضٌّ وَظِلٌّ ظَليلُ

2

كان في هذه الدنيا عابرَ سبيل..

هُناكَ من يأتي لهذه الدنيا مثلنا وهناكَ من يأتي ليكون درسا لمن هو مثلنا.. ليكونَ مصدر اطمئنانٍ لنا بأن الخير لا يزول من حولنا وأن السعادة ممكنة من دون الإنقضاض على الدنيا و ما فيها.. هذا النوع من البشر المملوئينَ خيرا لا يزاحمونَ البشر في ما بين أيديهم.. فهم كالغُرَباءِ وعابري السبيل.. تراهم فلا يثير مظهرهم فيكَ شيئا، فلا الصحف تتحدث عنهم ليل نهار ولا كانوا من أولئك الذين يعشقون الأضواءَ وضجيجَ البشر.. هم في الحياة من حولنا ككل الأشياء الجميلة.. فلا يمكن أن تستمر الحياة من دون وجود جمالهم..

هكذا كان الجليل حسن حبيب السلمان.. رجلا لا يعرف مآثره أحد سوى القلة القليلة.. رغم أن عدها وإحصاءها لا يقوى عليه أحد.. فكنتَ تراه هكذا ولا تدري ما هو فعلاً.. ولا تدري جمالَهُ فعلا.. كنجوم الليل وقمر الليل دوماً هنا فنعتبر جمالهم شيئا طبيعيا لا نلتفت له كل يوم.. وكان أعلى ما فيه ليس صوته بل فعله للخير والأيتام و أعظم ما لديه ليس السطوة والحظوة بل ابتسامَةٌ هادئة لا يمكن وصف مفعولها إلا لمن فقدها.. كان عابر السبيل الذي لم يأتِ لهذه الدنيا أو من أجل ما بها.. لأن ما يفعله ليس فعل من يريد المكوث والبقاء فيها..

حين كان مصابا بالذبحة الصدرية التي أدت لوفاته كان يتألم في مقاعد انتظار المستشفى مع زوجته الهادئة جدا كذلك.. وكانت الطبيبة أمامهم تفحص من به التهاب ڤيروسي بسيط فأطالت الطبيبة الحديث مع المريضة فطلبت الزوجة من الطبيبة معاينة الحاج حسن.. فردت الطبيبة أنها مشغولة بمريضتها.. وأنا هنا لا أروي القصة حتى ألوم طبيبته حاشى.. ولكن لأروي رده على زوجته ففي رده اختصارٌ لحياته كلها.. قال الجليل حسن السلمان لزوجته: لماذا طلبتِ من الطبيبة أن تراني.. لا أريد مزاحمة الناس وإزعاجهم!

رغم قدرته باتصال واحد على شحن جيش من الأطباء لم يتصل بأحد.. ولم يشأ إزعاج أحد.. لأنه كان عابر سبيلٍ فعلا..

اتصل بي صديقه العزيز لرؤيته بعد أن انخفض ضغطه وضعف قلبه فلما رأيته مع صديقي جراح القلب محمد البنا في الحادية عشرة ليلا..كان على مشارف الموت.. ذلك كان جليا.. لكن وجهه كان يتحدث.. وإنني أعرف حديث الوجوه المقبلة على الموت.. كان مطمئنا مرتاحا وكأنه يقول أنه اليوم الذي طالما انتَظَرَه وأنه رغم حب الناس له على هذه الأرض فهناك أحبابٌ ورفقاء دربٍ اشتاقت لهم النفس حتى ما عادت تقوى على البقاء هنا في هذه الدنيا.. وأن وقته معنا كان وقت العبورِ فقط لِما سَيَفِدُ عليه الليلة.. فازَ و رب الكعبة..

3

لا تبكي هنا

هذه القصيدة لأمريكية تدعى ميري فري.. لم تكتب في حياتها شعرا سوى هذه القصيدة.. قصتها أن جارتها كانت تبكي في أمريكا لأنها لم تستطع حضور آخر أيام أمها في ألمانيا.. وكانت تتمنى أن تزور قبر أمها لتسيل بعض الدمع عليه.. لم يكن لدى ميري فري سوى كيس ورقي فكتبت عليه من فورها هذه القصيدة التي ترجمتها بتصرفي من الإنجليزية:

لا تقف على هذا القبر وتبكي علي

أنا لست هنا.. أنا لا أنام هنا..

أنا آلاف الرياح تهب على وجنتيك

أنا بريق السماء على تلك الثلوج

أنا شعاع الشمس يحنو على تلك السنابل

أنا أمطار الخريف الهادئة

وعندما تصحو من نومك في الصباح.. أنا اليقظة التي ترفعك

أنا أسراب الطيور والنجوم التي تلألأُ ليلا في السماء

لا تقف على قبري وتبكي.. أنا لست هنا.. أنا لا أموت!

ومن أشهر اللحظات التي ألقيت فيها هذه القصيدة هي في جنازة شاب قتيل إثر انفجار قنبلة في ايرلندا الشمالية حيث ألقاها أبوه بعد أن وجدها في ممتلكات ابنه، وهذه هي القصيدة بالإنجليزية حيث إنها من أروع ما قرأت:

Do not stand at my grave and weep

I am not there; I do not sleep

I am a thousand winds that blow,

I am the diamond glints on snow,

I am the sunlight on ripened grain,

I am the gentle autumn rain.

When you awaken in the morning’s hush

I am the swift uplifting rush

Of quite birds in circled flight.

I am the soft stars that shine at night.

Do not stand at my grave and cry,

I am not there; I did not die

4

Friend, don’t forget those who filled your life with life

Do trees love? I presume that they don’t, for if they do love, how could they remain standing after they loose their loved ones?

What is death? is it the disappearance of our bodies in coffins, or is it the disappearance of our memories and the mentioning of our names amongst our loved ones?

I mean what is the difference between that one who is present with you in body only and the one who is present with you in body and mind, but your mind is not attentive to him and that one that is away from you physically but your mind is always remembering him?

What is being present and what defines being away?

Those who passed away but still remembered in our talks are they really away?
We only remember those who filled our life with life! how could they be away when their memories are embedded in everything?
how could we call them away when the echo of their sound is still in the air?

I worked in the Cleveland Clinic for one year with Dr. PHILIP SCHAUER, who is one of the most successful surgeons in his generation, before moving back to Kuwait only few weeks ago. Last Wednesday Dr. SCHAUER landed in Kuwait to give talks at the first Gulf Obesity conference. Despite his long and tiring flight, he kindly accepted my invitation for dinner. It seems that nothing can kill his energy.

While we were driving in the car, he asked me whether he had told me about a Kuwaiti gentleman who stayed at their house in Fairfax Virginia in the Sixties of the last century. He went on telling me how wonderful was that young Kuwaiti, who at the age of eighteen came to the US to study English, prior to joining an Engineering school in Colorado. He was loved by the Schauer family and treated like one of their own. He had a great personality according to Dr.Schauer, that truly distinguished him. His name was Jaffar Aseeri.

While at dinner I posted a photo in INSTAGRAM of Dr.Schauer with Dr.Moosa Khorsheed who joined us, and mentioned that Dr. Schuaer would like to meet Jaffar Aseeri. I had many replies, and all were shocking.

Jaffar Aseeri received his master degree and PHD from the US before joining Kuwait University to be one of the first Kuwaitis working there. He went on to become the dean of the Engineering school at a very young age in the Eighties. He married Sawsan Almaraghi, and had two daughters, Farah (joy) and Fajer (Dawn). Then he joined Al Ain University as a visiting professor during the Iraqi invasion of Kuwait. He passed away in a tragic car accident only two months after the liberation of Kuwait.

Philip was saddened by what we found out, and insisted on meeting his small wonderful family. It was a beautiful meeting with stories about Jaffar that happened in time period unknown to them.

Could you imagine that quarter a century after the passing of your loved one, a stranger coming from a different world from overseas tells you how wonderful was your loved one half a century ago?

Whats even more incredible is that the Kuwaiti teenager went on to have a very successful career in his country, while the nine years old kid went on to become one of the most prominent surgeon of his generation!

There is no doubt that remembering our loved ones bring actual life into them
There is no doubt that death is not the death of our bodies
But death is the disappearance of our memories amongst our loved ones, therefore love is life that cant be destroyed!
Do not forget your loved ones, friend
Do not forget those who filled your life with life!

2

إنما الموت موت الذكر في قلب من تحب

كيف يحب هذا الشجر؟
كيف يعشق وكيف يفقد من يحب ثم يتحمل كل هذه الذكرى فيظل واقفا؟
كيف يا ترى يقف الشجر رغم كل هذا الألم؟

و ما هو الموت؟
هل هو غياب من نحب تحت الثرى؟
أم هو غياب ذكرى من نحب في الذاكرين؟

أعني ما الفرق بين من يكون حاضرا بجسده أمامك لكن عقله بعيد عنك وبين من يكون حاضرا بجسده وعقله من دون أن يلتفت عقلك أنت إليه وبين من يغيب عنك لكن عقلك لا يزال متعلقا به؟

ما هو الحضور و ما هو الغياب؟

أولئك الذين غيبهم التراب لكنهم لا زالوا حديث مجالسنا هل هم ميتون حقا؟
أليس الذكر كافيا كدليل على الحياة؟
إننا لا نذكر إلا من كان يملؤ حياتنا بالحياة… فكيف نُميتُهُم وهم كانوا مصدر فرحنا و حزننا؟
كيف يموتون وهم لهم في كل حرفٍ ذكرى
و كيف نُميتهم و أصداء ضحكاتهم لا زالت تملؤ الأرجاء؟

عملت في كليفلاند كلينيك لسنة كاملة مع الدكتور فيليب شاور الجراح الأشهر ربما في أمريكا قبل عودتي النهائية هذا الشهر للكويت وبعد أربعة عشرة سنة قضيتها متنقلا بين بريطانيا وكندا.
كان يوم الأربعاء هذا الحادي عشر من ديسمبر موعد وصوله للكويت لإلقاء محاضرات في مؤتمر السمنة الخليجي الأول، فاستقبلته في المطار احتراما له كمعلم وأستاذ ورغم تعب رحلة سفره إلا أنني عرضت عليه العشاء ومن شدة نشاطه الذي لا يمكن هزيمته بالتعب وافق على هذه الدعوة!
وبينما كنا نتجاذب أطراف الحديث في السيارة سألني إن كان هو حدثني عن طالب كويتي عاش في منزلهم في الستينات من القرن السابق… فأجبته بأنني لا أذكر ذلك!
رد فيليب شاور قائلا: مستحيل… كيف لم أحدثك عنه؟!!!
كنت أنا في التاسعة من عمري واستضفنا كويتيا في ريعان شبابه قدم لدراسة اللغة قبل التحاقه بجامعة كولورادو لدراسة الهندسة! كان إنسانا عجيبا! كانت أمنا تحبه كواحد منا وكنا نحبه كأخ لنا!
لا أستطيع وصف التميز في هذا الرجل المذهل ورغم أنني أنا فيليب كنت في التاسعة من عمري لكنني كنت معجباً به جداً وكذلك كل عائلتي!
هذه المرة الخامسة التي أزور فيها الكويت ربما وفي كل مرة أسأل عنه فلا يجيبني أحد! اسمه جعفر أسيري!

قلت له… إن كان مميزا بهذا الشكل وكان من أوائل الكويتيين الدارسين للهندسة بأمريكا فلا بد أن يكون مشهورا جداً الآن… أحتمل أنه ليس على قيد الحياة وإلا كنت عرفته!
وضعت صورة الدكتور شاور والدكتور موسى خورشيد الذي التحق معنا للعشاء في انستاغرام وذكرت أن الدكتور شاور يرغب بلقاء جعفر أسيري… بطل طفولته!

و إذا بالصدمة تأتي!

جعفر أسيري حاز على شهادة الماجستير والدكتوراه بأمريكا ثم عمل كأستاذ في كلية الهندسة قبل أن يصبح عميدا لكلية الهندسة في جامعة الكويت وهو بالثلاثينات من عمره! كما أنه كان مميزا ومحبوبا جداً!

ثم إنه تزوج من الأستاذة سوسن المراغي عام ١٩٨٤ وأنجب منها طفلتين… فرح وفجر… ثم التحق بجامعة العين كأستاذ زائر لكنه وفي أثناء عودته بالسيارة إلى الإمارات شهرين فقط بعد تحرير الكويت، توفاه الله بحادث أليم وبالشهر ذاته الذي شهد ولادة طفلتيه… شهر نيسان!

أصيب الدكتور شاور بالحزن حين علم بذلك وأصر على اللقاء بعائلته الصغيرة الرائعة رغم أنه مسافر اليوم عصرا!
كان اللقاء جميلا ومليئا بالحديث عن الذكريات التي لم يكن أحبابه على علم بتفاصيلها!

هل لك أن تتخيل أن يأتي أحدهم نيفا وعشرين سنةً بعد وفاة من تحب… يأتي عبر البحار من عالم آخر… وآخر عهده بحبيبك خمسين سنة ليخبرك كم كان ذلك الذي تحب رائعا؟!
أنا لا أستطيع تخيل ذلك!

والأعجب أن ذلك الكويتي الذي كان بالثامنة عشرة من عمره أصبح شخصا ناجحا جدا وعميدا لأهم الكليات في الثلاثينيات من عمره وذلك الأمريكي الذي لم يتجاوز التاسعة أصبح أشهر جراح أمريكي والرجل الثاني في أشهر مستشفيات أمريكا… كليڤلاند كلينيك!

لا شك أن ذكر الأحباب حياةٌ لهم
ولا شك أن الموت ليس موت الجسد
إنما الموت موت الذكر في قلب من نحب، لذا كان الحب حياةً لا تستطيع قتلها السنين مهما طالت!
فلا تنسى من تحب… يا صديقي
لا تنسى ذلك الذي كان يملؤ حياتكَ بالحياة!

20131213-155542.jpg

1

الحسين للجميع

إن الأبعاد كلها نسبية ووهمية ولعل أكثرها وهما هو الزمن!

إن نمت ألف عام ثم صحوت من نومك ما الذي سيعنيه لك الألف عام؟!

لا شيء!

فلا تلومَنَّ من سجنته الذكرى! ذلك أن الذكرى أهم من الزمن والفَقيدُ ليسَ كَكُلِّ فقيد!

فيا صديقي لا تجعل رفضك لمظاهر الحزن على الحسين مانعاً من معرفة الحسين!

ذلك أن الحسين لخص الإنسانية كلها في ما فعل، لخص الجمال والحب والشجاعة والعز والعشق! ثم أهدى البشرية جمعاء ملحمةً للهدى لم يستطع أحد بعده أن يكتب مثلها! حين كان ينزف دما بعد أن رمي بالسهم في فمه تراه يخرج السهم وتفور الدماء فيلقيها إلى السماء قائلا:
هون علي ما نزل بي أنه بعين الله!

تركت الخلق طُراًّ في هواكَ
وأيتمت العيالَ لكي أَراكَ
فلو قُطِّعتُ في الحب إرباً
لما حنَّ الفُؤادُ إلى سِواكَ

ولا أدعوك هنا أن تقرأه قراءة سياسية ولا أدعوك أن تؤطره بمذهبٍ أو صفة! أدعوك فقط أن تقرأ ملحمة كربلاء، اليوم الذي وقعت فيه المعركة فإنك فيها ستعيش ملحمة إنسانية قل نظيرها. ما بالنا نقرأ ملاحم الإغريق وغيرها لكننا حين نأتي للحسين أحد حفيدين فقط لرسول الله محمد نقف ونُشيحُ وُجوهَنا؟

وإن من أعظم قصص الحسين الإمام العظيم قصص رفاقه وأبنائه!

ذلك الذي كان يجود بنفسه متألما من طعن الرماح وجراح السيوف (مسلم بن عوسجة) فلما أتاه رفيق دربه حبيب بن مظاهر ذلك الصحابي البدري أتاه مع الحسين فحملوا رأسه من على التراب وطلب منه حبيب أن يوصيه بما يحب!

طلب حبيبٌ من مسلم بن عوسجة أن يوصيه بما يشاء ويحب فأشار إلى الحسين وقال: أوصيك بهذا الغريب… أن تموتَ دونه!

أينَ أهلُكَ يا مسلم؟ أين زوجك؟ أين أبناؤك؟ لِمَ لَمْ توصِ بهم؟! ولم توصِ إلا بسبط رسول الله الأكرم الوحيد؟!

وحين كانت زوجة أم وهب المسيحي ترفض قتال زوجها مع الحسين بداية المعركة لكنها أتت بعمود لتقاتل فتعجب وهب! سألها ما الذي غير رأيَكِ؟ قالت فداك أبي و أمي… قاتِل دون الطيبين ذرية محمد! فسألها ما الذي غير رأيكِ؟ قالت: إن واعية الحسين قطعت قلبي! ألا من ناصرٍ ينصُرُنا؟!

وهناك قصة لكل واحد من الإثنين والسبعين شهيدا من أصحاب الحسين وفي كل قصة عبرة وملحمة تحلق بروحك بعيدا. هذه العبر الروحية أساطيرٌ حقيقية لا تفوق حدود المذهب فقط بل حدود الإنسان والبدن والدين… هي عِبَرٌ تفوقُ كل حد!

فلا تجعل خلافك لمذهب أن يمنع روحك من الإستزادة من كنوز كربلاء فإنها للجميع، ليست للشيعة فقط وليست للمسلمين فقط وليست حتى للإنسان فقط … هي للكون أجمع!

كان في معسكر الحسين من قد يكون سنيا اليوم وكان في معسكر يزيد من قد يكون شيعيا اليوم!

3

إن الدموع لا تُرجِعُ أحدا

لا بد أن تعتاد على ألم الفراق، ذلك أنك ستَفقِدُ كُلَّ من تُحِب… أعني كلهم جميعا!

فإن رحلوا قبلك ستفقِدُهُم و إن رحلت قبلهم ستفقِدُهُم بشدة أكثر!

و ما شروق الشمس بجلالها وجمالها ثم غروبها إلا لِتُخبِرَكَ بذلك! أن كل شيء في هذه الدنيا إلى فراقٍ أو وداعٍ أو زوال! سمِّهِ ما شئت!

وحين أعني أن تعتاد ألم الفراق لا تعتقد أنني أعني أن تنسى من رحل كُلًِّيا! فأنت لا تستطيع ذلك لأنك إن حزنت لرحيل من تحب فأنت تحزن لفقدان جزءٍ منك! ستظل تحس فيه كالذي بُتِرَت ساقُه! هو يحس بوجودها بل حتى بآلامها رغم أنها مبتورة! وحتى إن نسِيَ عَقلُكَ من رحل فإن روحَكَ لن تنسى ذلك أبدا! فَحينَ تنام يتنزل هذا الألَمُ على قلبِكَ دون أن تشعُر حيث أن النوم وقتُ استيقاظِ الأرواح التي لا تنسى!

يقولون أن كل شيءٍ قابِلٌ للتعويضِ في هذه الدنيا إلا الوقت! كيفَ ذلك وأَنتَ تُحِسُّ أنك لن تستطيع أبدا تعويضَ حبيبِكَ الذي رَحَل؟! الإجابَةُ هي أنك لا تفتقده هو بالضرورة لكن تفتقد الوقت الذي كنت تقضيه معه والوقت الذي مضى هباءً حينَ كُنتَ معه… فلو قُدِّرَ لَكَ أن تستَرجِعَ ذَلِكَ الزَّمَن لَأَفنَيْتَهُ فيمن تُحِب! في نَظَراتِكَ في عَيْنَيْه أو استماعِكَ لكل ما يتفوه به حتى وإن خالَفَك! و لو أعطاكَ الله من الأمرِ شيئا فَلَرُبَّما رَجَوتَهُ أن تكونَ ظِلَّه! أو غَيمَةً لا تُفارِقُه أو شُعاعَ الشَّمسِ الحانِيَةِ على جَفْنَيْه!

و إنني يا أخي أعتَذِرُ لكَ من قولي عظم الله أجرك! فما أسهَلَ تَمْتَمَتي بهذه الكلمات التي لم تكن تَحسَبُ أنها سَتُقالُ لَكَ في هذه السنة و لربما حَسِبتَ أنها لن تُقالَ لَكَ أبدا في أُختِكَ التي تَصغُرُك! وأعتَذِرُ لَكَ ولَها ولزوجها وأبويكما والجميع عن كل أمَلٍ بِعتُهُ لكم! إن هذا الموتَ لا يعتَرِفُ بالأمل ولا ببائعي الأمل ولا بالسنينَ الطويلةِ التي كانت سَتَعيشُها! لكن العزاءَ الحقيقي أنها رحلت كما يرحل الأبطال وأنكم قمتم بواجبكم رغمَ انكِسارِ قلوبكم وظهوركم كما يقوم به أشجع الناس وأكثرهم عشقا وحبا لفلذات أكباده!

لا تحزن فقد قالتها لكم: إن الدموع لا ترد أحدا!

0

في رثاء بعضٍ من قلبي

في محضر من يرحل لا تملك شيئا سوى أن تقف أمام ذكرياتك معهم صامتا فلا أجل من لغة الصمت إنها لغة الوداع ولسان الجلال وحديث العشق!

تنفخ في هذه الذكريات روحا حتى يدُبَّ فيها الحنين!

إن الحنين مخلوقٌ تعجنه يد العشاق بزفراتهم ودموعهم وتحييه الذكريات! ما أجملها وما أقبحها في آن واحد فجمالها في لذة الحنين وقبحها في علمك أنها لن تعود فكيف تعود الذكرى مع من هم تحت التراب إلا عند مليكٍ مقتدر؟

وأقسى الذكريات كذلك هي ما لم تشتمل على الوداع! هي التي تجعلك تتحسر على أنك لم تبح بما في قلبك لمن رحل!

رحل السيد موسى بهبهاني اليوم صباحا بعد صراعٍ مرير مع السرطان! هناك سرطان وهناك سرطان آخر! و رغم أنني رأيت مئات حالاتٍ من السرطان كان مرض السيد مختلفا كان قاسيا عليه وشديدا حتى علاجه الجراحي كان متعبا جداً!

يقولون المرض ابتلاء يمحي ذنوب الإنسان! فإذا كانت هناك درجات للمرض فلا شك أن مرضه كان أعلى ابتلاء ولا أشك للحظة أنه التقى ربه اليوم قرير العينِ مطمئنا! هذا الرجل لم يكن مؤمنا فحسب بل كان قبل كل ذلك رجلا شهما مقداما فارسا شجاعا! كان يحمل كل صفات المروءة فإن شئت أن تبين معنى المروءة الذي يصعب شرحه في هذه الأيام بالذات كنت تشير الى السيد موسى وتقول هذا معنى المروءة!

تجلى ذلك حتى في علاجه! حين زرته في مستشفاه بتورنتو بعد أسبوعين من عمليته الكبيرة والمعقدة جداً كان جالسا كملك على عرش لا مريضا على كرسي مرض! مرفوع الهامة أشم الأنف صبورا محتسبا! غالبت دموعي حين رأيته وأنا ملك مغالبة الدموع! فكنت أمزح معه كثيرا قلت له ستُشفى ونعود في ديوانك العامر الكل مشتاق إليك!

كل إجازة حين أرجع للكويت أزور يوميا ربما ديوانه! وكان حديثه دائما مشوقا عن كل شيء! كان حلو المعشر ساحرا يأسر قلوب الناس ولم أرَ أحدا يكره ذكر سيرة شخص في غيابه مثل السيد موسى! كنا نلعب الدومنة وكان هو شريكي باللعب وكنا نتحمس دوما لهزيمة عمي عبدالحميد جمال بهذه اللعبة حيث كان يكره ذلك وكان هو يتحمس جدا حين اللعب رغم أنه دوما يتهرب من اللعب ضدي حيث كنا نملأ الديوان صخبا حين نهزمه! بآخر مباراة لي ضد عمي كنا نلعب قريبا من حمام السباحة فأتيت بكيس معي! وعندما هزمت أنا والسيد موسى عمي عبدالحميد أخرجت لباس السباحة من الكيس وقلت لعمي:
أنت مهزوم بهذه اللعبة اذهب للسباحة فهذا أفضل لصحتك!

ذكرت السيد بهذه المباراة وقلت له حين ترجع سالما سنباريه مرة أخرى ونحتفل بالفوز مرة أخرى!

انتقل السيد موسى الى منزله العامر الجديد فكنت كلما خرجت من الديوان أتظاهر أني أضعت طريق العودة فأسأله: سيد مشالله البيت وايد عود الواحد يضيع فيه! فكان رواد الديوان يضحكون وكان هو يردد: إذكر الله! وفي مرة سألته إن زار قصر الحمراء بغرناطة فقال لا لم أزره! فقلت له: عجيب أنك لم تزره وتصمم بيتك على طريقته! فضج الحاضرون بالضحك وقال لا بالله راح البيت!

عندما زرته بتورنتو بالمستشفى قلت له أجر وعافية عين ما صلت عالنبي كله من البيت فأشار بإصبعه لي مازحا وضحك قائلا كله منك!

رغم أنني جراح سرطان وأنني دوما بديوانه فلم يخبرني أنه قبل ثلاث سنوات كان هناك ورم بفمه أخذ الأطباء بالكويت منه عينة وقالوا له لاتقلق هذا لا شيء! كبر الورم هذا الصيف فسمعته بالديوان يتحدث أنه سيذهب لعملية جراحية! قلت له سيد شالسالفه! فأخبرني بالتفاصيل فرفعت السماعة على أخي الذي لم تلده أمي جراح الفم عبدالعزيز الموسوي الذي أتى للديوان فورا والتقى به لأول مرة وأشار عليه بالذهاب لكندا وعدم إجراء العملية بالكويت! عبدالعزيز الذي التقاه لأول مرة أحبه حتى بكى حين رآه بعد رحلة العلاج!

لماذا لم يخبرني بمرضه قبل ثلاث سنوات؟! لأنه ملك بلا عرش! لأنه أتى إلى هذه الدنيا خفيفا لم يُثقِل يوما على أحد! لأنه من نوادر الدنيا أن تلتقي برجل كهذا الرجل! لأن مثل أولئك الرجال غرباء يأتون فيرحلون دون صخب!

كان ساحرا لكن سحره يتجلى بالقلوب فقط! حتى جراحه الكندي الذي هو من أشهر جراحي العالم بالفم عندما أخبرني بعودة سرطان السيد بعد العملية كان يغالب دمعه! قال لي هذا رجل عظيم لم ألتق إلا نادرا بمن هم على شاكلته! لقد أحببناه كلنا!

إن أكثر ما يؤلمني أنني لم أستطع أن أنظر في عينيه وأقول له ما بقلبي:
أنت كوالدي الذي يحبك كثيرا فكنت رفيق دربه! أنا حين تحدثت أمام الجموع كان لا يهمني وجود أحد إلا أنت ووالدي فكنت أخجل من الحديث أمامكما!
وأنا على يقين أن مقعدك بالجنة فلا تنساني واذكرني!

لم أستطع البوح بما في قلبي حتى لا يُمحى الأمل بقلب أحبتك بالشفاء! كنت أشعر بالعجز كثيرا حين أحدثك وأتحدث مع أبنائك! ما أكره الشعور بالعجز!

أرجو أن تقرأ كلماتي هذه الآن فتغفر لي عجزي! فإنك لم ترحل! كيف يرحل من لم يحن موعده؟
أرأيت الشمس تغادر يوما قبل حينها؟
أرأيتها تغادر وسط النهار لا آخره؟

20130426-003149.jpg