الحب والموت: أبرز ما يحرك الإنسان في كافة أطوار حياته.. الحب دافعه للبقاء والذي يعطي قيمةً لوجوده والموت هاجسه الأكبر وحقيقته العظمى.

من أجل ذلك اعتمدت الملاحم على تلكما الركيزتين فكلما زاد الحب والموت في قصة زادت المشاعر التي تخلقها إلى أن تصبح ملحمة.

وفي الحب والموت يتداخل الزمن تداخلا مهما.. ان اعتقد هيديغر أن وجود الإنسان هو زمنه الذي ينتهي بموته فإن في الحب قدرةً على منه الموت بالذكرى.. بخلود الذكرى وعلى ذلك فالحب يجعل الوجود خالدا باستمرار ذكر الموجود مدى الأزمنة والدهور وقد يكون الشاعر جاسم الصحيح عبر عن ذلك بجمال:

فما أبصرت مبدعاً كالحسين يخط الحياة بلا إصبع

الحسين في ملحمة كربلاء كتب الحياة والزمان الخالد بقتله الذي يكنيه الصحيح بالإصبع المبتور، ولقد قُطِعَ إصبع الحسين بعد استشهاده كي يظفر قاطعه بالخاتم الذي فيه.

لا توجد ملحمة (في نظري) تستثير مشاعر الإنسان كما كربلاء ولعل الملاحم منذ بدئها في جلجامش إلى الإلياذة والأوديسي والشاهنامة وبيوولف وسينورا إدا وغيرها كثير لا تساوي في استثارتها لمشاعر الحب والفناء والبطولة كما كربلاء، على أن الفارق هو كون كربلاء حقيقة قد تفوق كل خيال.

ولو نظرنا إلى ملحمة كربلاء فبدؤها ما كان في كربلاء بل منذ مبعث النبي محمد (ص) جد الحسين.. محمدٌ الذي حاربته قريش وعذبته وطاردته ثم نفته فلما عاد إلى مكة فاتحاً ظافرا، عفى عن كل أعدائه حتى إذا توفاه الله ولم تمض عقود قليلة ذُبِحَ أهل بيته في كربلاء كما النعاج على يد أحفاد من عفى عنهم في مكة.

وهنا ينبغي أن لا ننسى أن المحارب الأشهر في الإسلام والذي جرت على يديه انتصارات حروب النبي محمد(ص) هو ابن عمه الإمام علي (ع) والذي كان ابنه الحسين بطل كربلاء.

الرابط الأبرز بين قصة النبي وكربلاء هو شعر يزيد الذي قاله وهو ينكت رأس الحسين بعصاة في مجلس.. ذلك الرأس الذي تم جلبه مع نساء أهل البيت السبايا إلى الشام:

ليت أشياخي ببدر شهدوا جزع الخزرج من وقع الأسل

لأهلنا واستهلوا فرحاً ثم قالوا يا يزيد لا تشل

ويعني بأجداده في بدر شيوخ قريش الذين قُتلوا بسيوف أبطال بني هاشم علي وحمزة

في كربلاء ملحمة لم تأخذ حقها كما تأخذها ملاحم الشعوب وخصوصا لم تأخذ حقها بين الشعوب العربية أدبياً وثقافيا.. ففي ألبانيا كانت الملحمة الشعرية لشاعرها الشهير داليب فراشري بعنوان حديقة الشهداء والتي تحكي عن ملحمة كربلاء في ٥٦ ألف بيت وكان يحاكي فيها الملحمة العظيمة حديقة السعداء لشاعر الأتراك الأوحد فضولي والتي كانت عن أهل بيت النبي وكربلاء

ثم قام نعيم فراشري شاعر ألبانيا وبطلها الأوحد وشاعر ثورتها بكتابة ملحمته الشعرية لإستثارة حماس الشعب الألباني بعنوان كربلاء.. وبالمناسبة فهو ذاته من مترجمي الإلياذة..

في الإلياذة يحكي هيوميروس حرب طروادة ثم في الأوديسي عن عودة يوليسيس إلى بلاده فيلاقي في رحلة عودته الأهوال والصعاب.. قرأت أن أم يوليسيس كانت تسميه پوليارتوس أي كثير الحمد (محمد).. وعندما عاد الى بلده اثيكا لم يتعرف عليه أحد سوى حيوانه العجوز.. وفي كربلاء كان آخر الباقين حيوانٌ أيضا وهو الفرس المسمى ذو الجناح والذي ينحدر من جياد رسول الله(ص) ولقد رجع إلى مخيم الحسين من المعركة مثقلا بالسهام ومن دون فارسه الشهيد الإمام الحسين (ع) فلما رأى النسوة الجواد خاليا استيقنوا قتل الحسين.

كان علي بن الحسين أشبه الناس خَلقاً وخُلُقا بالنبي محمد(ص) حتى أن الناس إذا اشتاقوا لرؤية النبي نظروا إلى علي بن الحسين الأكبر.

في كربلاء وبعد أن قطع جيش يزيد الماء عن معسكر الحسين لثلاثة أيام كان عطش علي الأكبر هائلا حتى أن لسانه كان كما الخشب. فلما رغب علي في القتال طلب من أبيه الحسين الماء الذي لم يكن لديه منه شيء.. فكان رد الحسين: ما هو إلا زمن قليل فتلقى جدك المصطفى فيسقيك من كأسه الأوفى.

قاتل علي الأكبر قتال الأبطال حتى قُتِلَ غدراً إلا أن جواده لم يرجع بجثته إلى معسكر الحسين بل إلى معسكر الأعداء الذين قطعوه إربا إربا حتى استنقذه الحسين الأب بنفسه.. ولا يسعنا هنا ذكر كل قصص الملحمة الحسينية التي حارب فيها ٧٢ رجلا جيشا يقدره المؤرخون بما لا يقل عن ثلاثين ألفا والبعض بمئة ألف.

إرث كربلاء الملحمي ينبغي أن يكتب بأسلوب ثقافي أدبي خالد فإن هذا الإرث يلخص ملحمة الإسلام منذ بدايته.

في الحب الذي تستثيره كربلاء يقف الموت عاجزاً وفي عزة الحسين وصحبه تموت الهزيمة.. ورغم أن الحسين استشهد في كربلاء إلا أن دمه انتصر ليس ضد أعدائه في ذلك الزمان فقط بل في كل معركة بين حق وباطل.

كان الحسين طفلا يصعد على ظهر جده رسول الله (ص) وهو ساجد فلا يقوم الرسول الأكرم من سجوده كي لا يقع الحسين فيتأذى.. وفي كربلاء داست الخيول على جثة الحسين حتى سحقت عظامه.. قال رسول الله: حسين مني وأنا من حسين.. أحب الله من أحب حسينا.