نحن لا نموت: شهداء مسجد الإمام الصادق

أتيت هنا من دون خطط مسبقة وأفكارٍ مسبقة.. أتيت لألقي على الورق حزني وحزننا كلنا.. لأرى كيف يكتب نفسه؟ والحزن مخلوقٌ لا يجيد التعبير عن نفسه بالكتابة أو بالكلام.. هو يجيد الرسم باللون الأبيض على رؤوسنا وضفائر الفتيات حتى يصبحن جداتٍ طاعناتٍ بالسن.. هو يجيد عصر القلب حتى لا يبقى فيه نفس وحفر الوجوه حتى تمتليء بالتجاعيد وسيل الدموع حتى تحفر مع التجاعيد طُرُقَها.
كان أمساً مختلفا.. من الأماسي التي تبقى.. تلك التي يقول عنها شاعر تراجيديا الإغريق إزكيليوس أنك لا تنساها أبدا وإن حسبت أنك نسيتها فإنها ستتنزل بحزنها على روحك حين تنام.. الروح لا تنسى أبدا ما يحزنها.. هذا الحزن الروحي لا يُنسى.. حزن الدماء لا يُنسى وحزن وطنٍ بجمال الكويت وأهلها لا يمكن أن يُنسى.
كانت دقات قلبي في السيارة بعد سماعي لخبر الإنفجار في طريقي للمستشفى لا يمكن عدها.. كان ينبض بالغضب.. بداية الحزن الغضب والإنكار.. ركضت ركضا باتجاه الحوادث.. كان الجرحى يأتون كالسيل في القاعة الكبرى.. انخفض النبض قليلا.. حددنا أشد الحالات وجئنا بهم لغرفة الريسس.. انخفض النبض أكثر فيها وارتفعت الأصوات.. اتجهت لغرفة العمليات بجريح.. لم يكن يشتكي ولم تكد تسمع له آه.. انخفض النبض أكثر.. هنا تذكرت أن غرفة العمليات للجراح كحضن الأم ففيها ينسى كل شيء.. هو (الجراح) مولودٌ فيها.. وحين قبضت على السكين نسيت العالم كله.. نسيته مع الپروفيسور عبدالله بهبهاني.. في عين العاصفة يجب أن تهدأ.. أنت في عين العاصفة.
د.هيثم الخياط وأنا كنّا نغلق بطن المريض الأول.. غالب دمعه.. قال: هل شممت الدماء في غرفة الحوادث؟ لم أشمها بهذا العنف منذ زمن..قُلْتُ هنا السلام على الحسين.. خيم الصمت حينها ولا تكاد تسمع سوى صوت الإبرة وهي تحتك بمقبضها ولو كان للدموع صوتٌ لكنتَ تسمعه.
كنت أريد كتابة ما أكتُبُ الآن قبل بضع ساعات وأنا صائم لكن تعب الصوم منعني.. فتفكرت كيف يتعبني الصوم عن الكتابة وكيف لم يتعبهم الصوم ويمنعهم من الموت؟ لا تمت صائما يا هذا.. فالصوم متعبٌ ولا يحق أن يجتمع الجوع والعطش مع الموت.

إلهي ونحن نقر الضيوف في بيوتنا فلا عطش ولا جوع ولا أذى.. وهؤلاء كانوا ضيوفك في بيتك جائعين عطاشى وقد مسهم الأذى.

اللهم فإرو عطشهم وداو أذاهم وأشبع جوعهم.
إلهي وهم غرباء الليلة.. فكن لهم الوطن.
مشتاقون لأحبابهم فكن لهم اللقاء والسلوى.
في قبور ضيقة فكن لهم الفضاء الواسع.
اللهم وقد انطفأ نور عيونهم فأنرها واكحلها بنور محمد وآل محمد.
اللهم واجبر كسر هذا الوطن الجميل.. وألف بين قلوب أبنائه يا جابر كسر القلوب التي لا تُجبَر.
هم لم يموتوا.. نحن لا نموت.. لم نمت في كربلاء فكيف نموت اليوم؟

 

3 آراء حول “نحن لا نموت: شهداء مسجد الإمام الصادق

  1. كلمات تليق بالعظماء
    بالانسانية المقهورة
    بالقلوب الرحيمة والحنين الى تراب الحرية ..
    رائع جدا .. سلمت ..
    وابعد الله الحزن عن الكويت ..

  2. كانت هذه الكلمات هي أول ما أقرؤه لك بالصدفة في انستا إذ لم أكن سمعت بك مسبقا. ولا أكاد أصدق انني لم ابحر في بحر كلماتك قبل اليوم. حقا لاتسعفني الحروف لأعبر عن مدى انبهاري بكل ما خطه قلمك الجميل. جمعت بين الطب والأدب والدين والخلق وجمال البلاغة والفصاحة. لا أمل التجوال هاهنا في المدونة ولا أمل تكرار المرور على نفس المقال مرة واثنين وعشرا! حفظك الله وأدام قلمك ووفقك لكل خير.
    متابعتك من مسقط سلطنةعمان

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s