رسالة قبل الرحيل

هذه رسالة كتبها اليوم جراح أعصاب تخرج من البورد من جامعة ستانفورد مؤخرا عنوانها (قبل الرحيل) بعد تشخيصه بسرطان الرئة المنتشر في كل أنحاء جسده، سأترجمها هنا ترجمةً غير حرفية.

في تدريب الجراحة يرددون دائما أن الأيام طويلة لكن السنواتِ قصار.. وعندما كنت أتدرب في بورد جراحة الأعصاب، كنّا نبدأ مرورنا قبل السادسة صباحا ولا ينتهي اليومُ إلا حين تنتهي من العمليات فإذا كنت سريعا فيها انتهى يومك أسرع مما إذا كنت بطيئا جراحيا لكن ذلك لا يعني أن تقدس السرعة فلا تجري عملك بدقة. أتذكر كيف كان ممرض العمليات يتهكم علي في أوائل أيامي حين كنت أخيط الجروح بدقة وبطء شديد فكان يقول هل أنت جراح تجميل أم جراح أعصاب!
اكتشفت خطتك!
 أنت بطيء في إغلاق الجرح حتى يلتئم النصف السفلي منه الذي خيطته للتو بينما تكمل خياطة الجزء العلوي.. قال الممرض ذلك ذات مرة كناية عن بطئي الشديد.. أي أن الوقت الطويل الذي استغرقه لخياطة الجرح وكأنه أسبوعٌ كامل كفيل بالتئام الجروح.
الكل كان يحثني على السرعة في سَنَتي الجراحية الأولى حتى لا يستغرق المريض وقتا طويلا على طاولة العمليات فكلما طالت العملية كلما زاد إجهاد المريض.
هناك وسيلتان لإختصار الوقت في العمليات فإما أن تكون كالسلحفاة أو كالأرنب كما في القصة الشهيرة، الجراح الأرنب يتحرك بأقصى سرعة فلا تكاد تشاهد يده وهو يفتح جلد  الرأس بسكينه كما تفتح الستارة المنزلية ثم بلحظاتٍ تشاهد قطعة جمجمة الرأس على طاولة الممرضة بعد أن يتطاير غبار العظام، لكن الفتحة التي قام بها الجراح الأرنب قد تحتاج لبعض التوسعة فيستغرق ذلك وقتا أطول.. أما الجراح السلحفاة فيستغرق وقته بالتخطيط قبل فتح الرأس لكنه لا يحتاج لمراجعة ما قام بفعله. يفوز الجراح الأرنب إذا لم يضع وقته في كثرة المراجعات ويفوز الجراح السلحفاة إن لم يضع وقته في طول التخطيط والتفكير.
الشيء الغريب في غرفة العمليات أنك سواء كنت بطيئا أم خارق السرعة فإنك لا تحس بالوقت، فإذا كان الملل كما يعرفه هيديغر الفيلسوف الإحساس بمرور الوقت، فما يجري في غرفة العمليات هو العكس تماما. يقفُ الوقتُ تماماً في غرفة العمليات حتى ما إذا غرزت غرزتك الأخيرة يبدو وكأنما الوقت يبدأ من جديد، وكأنك تسمع صوتا يؤذن ببدء الوقت ثم تسأل نفسك الأسئلة الإعتيادية: متى تكون الحالة التالية؟ هل يكفي الوقت حتى أتناول طعام الغداء؟ متى سأصل المنزل الليلة؟
التدريب الجراحي مضنٍ جدا منذ اليوم الأول ولم يكن شيء يخففه سوى قول من حولي أن الستةَ سنوات هذه ستمر مر السحاب. كان ذلك واقعا… مضت خمس سنوات وبينما كنت في سَنَتي النهائية السادسة أحسست بأعراضٍ منها التعرق ليلا بشدة وفقدان الوزن والحرارة والسعال وألمٌ في الظهر، فشخصوني سريعا بسرطان الرئة المنتشر.
استطعت بصعوبة اجتياز السنة النهائية بينما كانوا يعالجونني بالكيماوي، ثم ما ان اجتزتها حتى رجع علي السرطان بطريقةٍ أشرس وحين رخصوني من المستشفى عدت الى منزلي متكأً على عصاة بالكاد أمشي ومن دون شعرٍ على رأسي. القيام للجلوس على الكرسي كان عملا شاقا بل حتى رفع كوب الماء. إذا كان الوقت يطول حين يتحرك الإنسان بسرعة فهل يقصر حين لا يقوى على الحركة؟
أيامي أصبحت قصيرةً جدا فالذهاب لموعد الطبيب كان يدمر كل يومي بل حتى إذا زارني صديق.. لأنني يجب أن أرتاح بعد عناء الموعد أو الزيارة. أصبحت أيامي متشابهة حتى أن الوقت لم يعد يعنيني واليوم لم يعد يعني لي شيئا. ورغم كل هذا الحزن فقد حصل شيء جميلٌ جدا إذ ولدت ابنتي يوما واحدا بعد ترخيصي من المستشفى فأعادت تعريف وقتي ويومي.
أصبحت أعيد تعريف الأفعال والزمن.. هل أنا جراح أعصاب؟ أم كنت جراح أعصاب؟ أو هل كنت جراح أعصاب وسأكون بعدها جراح أعصاب حين أموت؟
كتب غراهام غرين أن الحياة هي أول عشرين سنة فقط والباقي من السنوات ما هو إلا انعكاس للعشرين سنة الأولى. هل عشت حياتي أم أنها توقفت قبل ميعاد نهايتها؟ قبل بضعة أيامٍ احتفلت مع أصدقائي في الثانوية الذين أتوا من كل أنحاء الأرض بالذكرى الخامسة عشرة للتخرج وكان العهد أن نحتفل في الذكرى الخامسة والعشرين، فكنا نودع بَعضنَا قائلين (نراكم في الذكرى الخامسة والعشرين) لم أقل لهم أنه من المستحيل أن أكون على قيد الحياة حينها.
الزمن بالنسبة لي سيفٌ ذو حدين.. كل يومٍ يأخذني بعيدا من اليوم الحزين الذي شخَّصوا فيه عودة السرطان لكنه كذلك يأخذني قريبا لموعد موتي. ربما سأموت في يومٍ أبعدَ مما أعتقد لكن أقرب مما أتمنى.
كلنا سائرون نحو الفناء فأنا لست أول الفانين ولن تكون أنت آخرهم.. الأمنيات والأحلام إما أن تتحقق أو أن تُنسى.. المستقبل بالنسبة لي أصبح عديم الوجود.. المال والجاه والدنيا كلها أصبحت لا تساوي لي شيئا إذ أيقنتُ الرحيل.
هناك شيء واحد يهمني في المستقبل، أن أعيش حتى تكبر ابنتي (كادي) قليلا بدرجة تستطيع معها أن تتذكرني. فكرت أن أكتُبَ لها بعض الرسائل، لكن ماذا عساي أكتُبُ لها؟ فأنا لا أدري ما ستكون شخصيتها حين تبلغ الخامسة عشرة مثلا؟!
هناك شيءٌ واحِدٌ بسيط أقوله لها:  يا ابنتي حين تتذكرين حياتك بعد زمن وحين تُعَرِّفينَ عن نفسك للناس تذكري هذا الشيء ولا تنسينه: أنك ملأتِ حياة إنسانٍ على مشارف الموت بسعادةٍ لم أخبرها في كل حياتي السابقة.. سعادة لا أريد منها أن تكبر.. سعادة تكفيني كما هي بعظمتها.

پول كالانيثي

3 آراء حول “رسالة قبل الرحيل

  1. إنه لشيء صعب ان يستسلم المرء لقدره ويتقبل واقعه فهنيئا له على هذه الشجاعه التي مكنته من كتابه مابداخله وكأنما يريد تخليد ذكراه فيها والتي أثرت في نفسي كثيرا وجعلتني افكر واتمعن بما انجزت في اول 20 سنه من حياتي . وشكرا على ترجمتك الممتعه وان كانت (غير حرفيه)

  2. والله العظيم ماني عارف شنو شعوري وانا اقرا القصه حسيت غصه بقلبي

    الله يرحم ضعفه ويقومه بالسلامه وربي يشافي كل مرضى هالمرض الخبيث والله يرحم كل عزيز علينا مات من هالمرض

    قصه عورت قلبي ياريتني ماقريتها

    • فعلا كلا منا يتذكر سعادته -التى يصعب وصفها- بمولوده الأول لو تذكرنا دائماً أن الفناء مصيرنا لأصبح العالم في سلام

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

صورة تويتر

أنت تعلق بإستخدام حساب Twitter. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s