إنما الموت موت الذكر في قلب من تحب

كيف يحب هذا الشجر؟
كيف يعشق وكيف يفقد من يحب ثم يتحمل كل هذه الذكرى فيظل واقفا؟
كيف يا ترى يقف الشجر رغم كل هذا الألم؟

و ما هو الموت؟
هل هو غياب من نحب تحت الثرى؟
أم هو غياب ذكرى من نحب في الذاكرين؟

أعني ما الفرق بين من يكون حاضرا بجسده أمامك لكن عقله بعيد عنك وبين من يكون حاضرا بجسده وعقله من دون أن يلتفت عقلك أنت إليه وبين من يغيب عنك لكن عقلك لا يزال متعلقا به؟

ما هو الحضور و ما هو الغياب؟

أولئك الذين غيبهم التراب لكنهم لا زالوا حديث مجالسنا هل هم ميتون حقا؟
أليس الذكر كافيا كدليل على الحياة؟
إننا لا نذكر إلا من كان يملؤ حياتنا بالحياة… فكيف نُميتُهُم وهم كانوا مصدر فرحنا و حزننا؟
كيف يموتون وهم لهم في كل حرفٍ ذكرى
و كيف نُميتهم و أصداء ضحكاتهم لا زالت تملؤ الأرجاء؟

عملت في كليفلاند كلينيك لسنة كاملة مع الدكتور فيليب شاور الجراح الأشهر ربما في أمريكا قبل عودتي النهائية هذا الشهر للكويت وبعد أربعة عشرة سنة قضيتها متنقلا بين بريطانيا وكندا.
كان يوم الأربعاء هذا الحادي عشر من ديسمبر موعد وصوله للكويت لإلقاء محاضرات في مؤتمر السمنة الخليجي الأول، فاستقبلته في المطار احتراما له كمعلم وأستاذ ورغم تعب رحلة سفره إلا أنني عرضت عليه العشاء ومن شدة نشاطه الذي لا يمكن هزيمته بالتعب وافق على هذه الدعوة!
وبينما كنا نتجاذب أطراف الحديث في السيارة سألني إن كان هو حدثني عن طالب كويتي عاش في منزلهم في الستينات من القرن السابق… فأجبته بأنني لا أذكر ذلك!
رد فيليب شاور قائلا: مستحيل… كيف لم أحدثك عنه؟!!!
كنت أنا في التاسعة من عمري واستضفنا كويتيا في ريعان شبابه قدم لدراسة اللغة قبل التحاقه بجامعة كولورادو لدراسة الهندسة! كان إنسانا عجيبا! كانت أمنا تحبه كواحد منا وكنا نحبه كأخ لنا!
لا أستطيع وصف التميز في هذا الرجل المذهل ورغم أنني أنا فيليب كنت في التاسعة من عمري لكنني كنت معجباً به جداً وكذلك كل عائلتي!
هذه المرة الخامسة التي أزور فيها الكويت ربما وفي كل مرة أسأل عنه فلا يجيبني أحد! اسمه جعفر أسيري!

قلت له… إن كان مميزا بهذا الشكل وكان من أوائل الكويتيين الدارسين للهندسة بأمريكا فلا بد أن يكون مشهورا جداً الآن… أحتمل أنه ليس على قيد الحياة وإلا كنت عرفته!
وضعت صورة الدكتور شاور والدكتور موسى خورشيد الذي التحق معنا للعشاء في انستاغرام وذكرت أن الدكتور شاور يرغب بلقاء جعفر أسيري… بطل طفولته!

و إذا بالصدمة تأتي!

جعفر أسيري حاز على شهادة الماجستير والدكتوراه بأمريكا ثم عمل كأستاذ في كلية الهندسة قبل أن يصبح عميدا لكلية الهندسة في جامعة الكويت وهو بالثلاثينات من عمره! كما أنه كان مميزا ومحبوبا جداً!

ثم إنه تزوج من الأستاذة سوسن المراغي عام ١٩٨٤ وأنجب منها طفلتين… فرح وفجر… ثم التحق بجامعة العين كأستاذ زائر لكنه وفي أثناء عودته بالسيارة إلى الإمارات شهرين فقط بعد تحرير الكويت، توفاه الله بحادث أليم وبالشهر ذاته الذي شهد ولادة طفلتيه… شهر نيسان!

أصيب الدكتور شاور بالحزن حين علم بذلك وأصر على اللقاء بعائلته الصغيرة الرائعة رغم أنه مسافر اليوم عصرا!
كان اللقاء جميلا ومليئا بالحديث عن الذكريات التي لم يكن أحبابه على علم بتفاصيلها!

هل لك أن تتخيل أن يأتي أحدهم نيفا وعشرين سنةً بعد وفاة من تحب… يأتي عبر البحار من عالم آخر… وآخر عهده بحبيبك خمسين سنة ليخبرك كم كان ذلك الذي تحب رائعا؟!
أنا لا أستطيع تخيل ذلك!

والأعجب أن ذلك الكويتي الذي كان بالثامنة عشرة من عمره أصبح شخصا ناجحا جدا وعميدا لأهم الكليات في الثلاثينيات من عمره وذلك الأمريكي الذي لم يتجاوز التاسعة أصبح أشهر جراح أمريكي والرجل الثاني في أشهر مستشفيات أمريكا… كليڤلاند كلينيك!

لا شك أن ذكر الأحباب حياةٌ لهم
ولا شك أن الموت ليس موت الجسد
إنما الموت موت الذكر في قلب من نحب، لذا كان الحب حياةً لا تستطيع قتلها السنين مهما طالت!
فلا تنسى من تحب… يا صديقي
لا تنسى ذلك الذي كان يملؤ حياتكَ بالحياة!

20131213-155542.jpg

رأيان حول “إنما الموت موت الذكر في قلب من تحب

  1. بعيداً عن موضوعك
    انا يؤلمني يا دكتور أن أرى أصحاب الشهادات العُليا لا يهتموا بالأدب
    أنت من الأشخاص النادرة التي بخلاف شهادتها .. تكتب لتتنفس ، وتستمد قواها من لغتها الفُصحى
    القادرة على تخليصك من تحت عجلات الكبت

    أحب جداً أن أهديك كتاباً ما .. أتمنى أن تستقبله

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s