لمن سألني عن الطب

كم تمنيت لو كنت مكانهم! هؤلاء الفتية والفتيات خريجي المدارس الثانوية!

كيف لا و الحياة كلها أمامهم! هم لم يفقدوا الحلم والخيال بعد! مازالوا يشكلونها في مخيلاتهم ويتصورونها ربما قصصا لا يملون منها!

هل تعلم أجمل ما في هذه الحياة؟
أنك لا تستطيع التنبؤ بها!

وكلما زادت قدرتك على التنبؤ بها كلما قل جمالها! وكلما زادت قدرتك على التنبؤ بها كلما قلت التحديات! فحينها تكون مستعدا ولن يباغتك عنصر المفاجأة!

هذا هو سر الشباب: التحدي والغموض والمفاجأة والتوق إلى لقاء مستقبل مجهول!

فلا تنكرون علي إن وددت أن أحل محلهم ولا تتهموني بالمبالغة!

هذه مقدمة لأرد بكل إيجاز عمن سألني عن تخصص الطب البشري

لا تدخل الطب إلا إن كانت تلك رغبتك أنتَ فهو من بين كل علوم الدنيا ليس علما وليس شهادة بل طريقة حياة، أغلب تخصصات الجامعة الأخرى ستخرجك عالما بها لكنك ستظل أنت كما أنت ستقوم بكل ما تشاء وكيفما تشاء إضافة الى عملك بالتخصص الذي درست به! سيكون عملك شيئا ثانويا، أحد الأشياء الأخرى في حياتك!

في الطب ستتغير حياتك رأسا على عقب خصوصا إن اجتهدت في تخصصك ما بعد التخرج من الكلية!

ستصبح الطبيب وباقي الأمور ستصبح هوايتك… نعم ستصبح كل الأمور الأخرى ثانوية ليس لعدم اهتمامك بها بل لأنك لن تستطيع غالبا فعل ذلك!

ربما تغيب عن عرس صديق عز أن تملك مثله! ربما تتخلف عن جنازة من تحب! ولادة من تحب أو حتى ولادة مولودكَ أنت!

أنتَ لستَ أنت حين تصبح طبيبا!

لكن كل ذلك ألم جميل! سيصبح الشعور بالألم هذا جميلا لديك! هو لن يحرك فيك مشاعر التعاسة إطلاقا!

هنا دعني أحدثك بسر:
التعاسة شعور مصدره أي شيء! حتى الفرح قد يؤدي الى التعاسة! التعاسة تتولد منك أنت فقط! من طريقة تعاملك مع كل ما تحس به!
يقول الشاعر الانجليزي الشهير ميلتون:
العقل هو مكان بحد ذاته! هو قد يحول الجنة الى نار والنار الى جنة!

ألم الطب هذا والفراق والغربة والبعد عن الأحباب وموت مريضك و ايقاظك في منتصف ساعات الليل لفحص بطن أحدهم أو إجراء عملية لا تتحمل التأخير! كل هذه الآلام ستصبح مصدر سعادتك!

وعندما أشرح لك هذه الأشياء فليس لرغبتي في إبعادك عن هذا المجال! كلا! بل رغبة مني في ترغيبك به! فلا أجمل من السعادة رغم الألم!

وهناك أشياء أخرى تعرفها كمدخولك المادي الجيد واحترام الناس وقدرتك على العمل في أي مكان وأي دولة تشاء! لكن هذه أشياء لا تقارن أبدا بمتعة السعادة وسط الألم التي أخبرتك بها!

الطب كذلك ساحة معركة! ستكون جنديا وسط حرب شعواء! خصوصا ان اخترت تخصصا دقيقا يجعلك تعالج الموت بيديك كتخصص الجراحة!

ستمر لحظات عليك تشعر فيها بالآية القرآنية التي تصور بلوغ القلوب الحناجر حين الخوف!

عندما يموت مريضك بين يديك أثناء عملية تجريها أو عندما يجرون سريرا في غرفة الحوادث لشاب في مثل عمرك والدماء تسيل منه بعد حادث سيارة مهول وأنت لا غيرك مسؤول عن إيقاف النزيف رغم صعوبة ذلك! عندها ستحس بمشاعر لا يحسها أحد! كل أصدقائك وأهلك ورفاقك لم يحسوا بها أبدا بل قرأوها ربما!

الشعور بالضياع والقلق والسقوط … والتمني لو أنك كنت الآن في مكان أفضل بين من تحب بدلا عن ساحة الدم هذه! يتبعه قرار بطرد مشاعر الخوف هذه وتصرف آلي بفعل الواجب رغم صعوبة كل ما تقوم به لكنك تفعله! ستذهل مما تفعل وتكتشف كل طاقاتك الكامنة!

ستلتقي بالموت! ستكتشف ضعف الإنسان!

سترى الموت يلاقي الجميع بنفس التحية وذات العناق!

لن يفرق بين غني وفقير! بين عاشق أو قاتل يملأ قلبه الكره! لن يفرق بين جميلة حسناء وامرأة قاربت عامها التسعين!

هذا الموت رسول من رسل الله والله لا يفرق بين عباده في شيء! ستتعلم حينها العدل والمساواة في كل شيء! وسَتَخبُرُ حينها أن هذه الحياةَ لا شيء!

إنها تنتهي في لحظات ثم بعدها تستمر الحياة كما هي!

ستصدر أنت شهادة وفاة مريضك وتذيلها بتوقيعك بقلم ذو حبر رديء ربما! أو آخر فخم غال الثمن! لا يهم فالنتيجة واحدة: أعلنت وفاة إنسان ثم رفعت عينك من الورقة ورفعت عينك من وجه الميت ثم أسدلت جفونه لتكون آخر إغماضة في حياته! ثم اتجهت لشأنك… لكوب قهوتك ربما أو اتصال عليك تَلَقّيه! حينها ستعلم أن الحياة هذه تمر مرور السحاب فلا شيء فيها يستحق القلق! ولا شيء فيها يستحق الفخر والتكبر! ستموت أنت يوما هكذا فلا تملأ الدنيا صخبا!

لن تجد مهنة تجعلك تعيش كل هذا! ألا ترى أن العرب قديما أسموا الطبيب حكيما؟

32 رأيا حول “لمن سألني عن الطب

  1. شكراً على هذا الرد الجميل لسؤالي يا دكتور .. و أود القول بأني و بعد قراءتي لما كتبت بإذن الله عزمت على السفر و دراسة الطب بالخارج فأنا *لا أريد الهندسة و لا القبول الفوري *و أحب أن أشيد بأن لك فضلاً في ذلك فقد أعطيتني تلك الدفعة التي احتجتها شكراً لك مرةً أخرى

  2. بارك الله فيك يا إنسان.. كم أتمنى رؤية المزيد من الأطباء الذين يولون الاهتمام والرعاية الإنسانية لمرضاهم.. أطباء يتوقون لإتقان عملهم.

    كنت ومازلت مصدر الهام لي لكي أبذل جهدي لاتقان عملي ودراستي وتوظيف خبراتي ووظيفتي لما يقربني من الله تعالى على الرغم من أن مساري المهني مختلف عنك.. فشكرا لك يا إنسان

  3. الصراحة ياصديقي العزيز القديم..لست ابداً ممن يقرا المدونات ..ولكن قعدت اتصفح مدونتك و قرأت هذا الموضوع…شعرت بانني داخل هذه القصة.. تسلم ايدك و مبدع كما عهدناك يابوجاسم و دكتورنا واخونا العزيز .. ربي يوفقك

  4. رائعه كان الله في عون الاطباء والطبيبات وجععل عملهم خالص لوجه الله

  5. أشعر بفخر عند قراءتي لكلمات تترجم الانسانيه سلمت يداك دكتور لا أعرف عنك سوى انسانيتك ووطنيتك

  6. ماشاء الله فعلا كلام رائع صادر عن شخص عظيم اعجبتني مدونتك
    واستمتعت بالقراءة اهنئك …….^-^

    ♥ Dr/RAWAN ALHOTHELIY

  7. I’m a second year medical student, this post found me!
    I wanted to thank you for these words, as simple as they are they carry a big sensation in them.
    I can’t wait to feel what you felt.
    God Bless!

  8. جميله كلماتك ..
    أوصلت احساس افتقدته..
    قرأته في الوقت المناسب كنت قاعدة اتحلطم من الجراحة وعلى اعصابي وحالتي حاله>>>اختباري النهائي بكرة

    كلماتك شجعتني استشعرت موقف انسان يضع اغلى ما يملك (روحه)
    و يستأمن جسده بين يديك ..
    احساس جميل انقاذ انسان على اعتاب الموت ..

    قبل دخولي الطب كنت أشوفه بالروعة اللي وصفتها لكن ضغط الدراسة يخلي الواحد يغفل عن كل الأشياء الجميله اللي نمر فيها ونعملها..

    عجبتني مدونتك بعد الاختبار نلفلف عليها ان شاء الله

    دعواتك دكتور

  9. والله يادكتور ان حلمي منذ الصغر ان اكون طبيب ولكن لظروفي الخاصة والمجموع لم ادخل الا قسم العلاج الطبيعي وانا الان اخصائي ولله الحمد واشتغل واحمد ربي مليون مرة اني لم ادخل الطب لكي لا امر في ما ذكرته لمعرفتي بزملائي واصدقائي الاطباء وحياتهم البائسة وساعات عملهم الطويلة والقراءة المستمرة ولكن لكل شيئ في الحياة ثمن وشكرا يا دكتور

  10. احساس غريب يفرض عليك ان تقف برهه من الزمن لتقول كلا من عليها فأن ويبقي وجه ربك ذو الجلالي والاكرام ♡ :”(
    لحظات الموت عندم تحدث امام عيناك ….

  11. قرات كلماتك للمرة الاولى في الانستغرام وشعرت بطاقة ايجابية عجيبة ..
    كوني طالبة طب في السنة الاولى احتاج وبشدة لمثل هذه الكلمات من شخصية مثلك دكتور ..
    لك شخصية جميلة ومكانة علمية كبيرة.. اتمنى ان اصبح مثلك يوما ماشكرا لك ولكلماتك التي تزيدةي املا

  12. رغم أنني طالبة طب إلا أن إحساسي بآلام الآخرين والرغبة بإنقاذهم تفوق خيالي
    أنالست أحب الطب كمهنة
    بل أحبها كحياة هو كل شي بالنسبة لي ولمرضاي بالمستقبل
    ففشلي أو نجاحي يساوي عندهم موتا أو حياة
    يساوي أعمارهم
    يساوي لحظات نخلقها لهم مابين الألم أو الأمل

    حتى ونحن طلاب فنحن نحرم من مخالطة الأصدقاء كثيرا
    وربما لم نعد نعرف ماتعني كلمة السهر والرقص طوال اللليل مع أصدقائنا
    لأننا وببساطة نجتهد ليلا لإنقاذ حياة أحدهم نهارا ذات يوم.
    الطب هو صديق ومعلم حقيقي لكل معاني الحياة…..
    فقط يحتاج أن نمحنه ثقتنا

  13. قرأة هذه المقالة من عدة شهور شعرت بالخوف في بداية الامر في نفس الحين شعرت بالحماسة و الرغبة الشديدة
    و الان هذه المرة الثانية الي اقرأ فيها هذه المقالة و ما يوجد بداخلي فقط هو الإرادة الحقيقية
    و من اعماق قلبي اشكرك ي استاذي

  14. سُلبت كل ذلك وأكثر قبل أن يشتد عودي في الطب وتمتدّ يدي باحترافٍ فيه

    ” …. لكن كل ذلك ألم جميل! سيصبح الشعور بالألم هذا جميلا لديك! هو لن يحرك فيك مشاعر التعاسة إطلاقا! ”

    نعم يا مُلمهي لن أدعها تتحرك – مشاعر التعاسة – أبداً

    صباح الرضا والابتسام 🌸

  15. كلام جميل
    لكن لو عاد بك الزمن مرة اخرى هل ستدخل الطب رغم صعوباته؟
    انا افكر بدخول الطب .. لكن مازلت في حيرة .

اترك تعليقًا على Blood & Water إلغاء الرد

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s