فهَلاّ كُنتَ من الذين ذَهَبَ الجمالُ بسمعهم وأبصارهم فما عادوا يستمعون لشيء إلا ما احتوى في ثناياه على كف حانية أو كلمة كإكسيرٍ يشفي كل مرض؟!
أو لعلَّكَ كنت في صغرك عاشقا لملاقاة الموت تواقا للنظر في عينيه راغبا أن تناغيه حتى إن تمت المعرفة بينكما طلبته للنزال ثم طعنته طعنة نجلاء بعدما كانت سكينه على عنقك لكنك بحركة سينمائية رميته بالهواء لتصرعه؟
هل أنت من أولئك؟ فإن لم تكن لا بأس عليك
هل كنت تتمنى أن تصنع فعلا عظيما فلا يدري عنه الناس فتخرج لمقهى بعدها تحتسي قهوتك وحيدا لا يشاركك فيها شيء سوى نسائم الهواء تهب باردة كبرودة قلبك حين كان الدم يتناثر حولك ويرتطم بوجنتيك وصفارات إنذار غرفة العمليات يصم أذنيك و صراخ طبيب التخدير أعطني الكيس العاشر من الدم ها أنا استبدلت كل دم هذا المريض ولا أستطيع قياس ضغطه !
فافعل شيئا يا أيها الجراح!
نعم … أنت هذا الجراح! أين كنت وأين أنت الآن؟! أنت الذي كنت آخر أقرانك قدرة على ربط حذائك طفلا! أصبحت تخيط أوعية دموية عوضا عن الحذاء حتى من دون أن تنظر!
أنت الذي كانت أمك تمنعك من مناولة الأشياء على مائدة الطعام لأنك كنت دوما تسقطها دون تحكم!
هل تذكر حين أسقطت العصير على طبق والدك؟
أنت الآن تتلاعب بأعضاء البطن كما يتلاعب عازف القيثارة بأوتارها!
أنت هذا الجراح تحاول إيقاف نزيف شاب لم يكمل بعد عامه العشرين وأمه وأخته ينتظران خبرا منك بفارغ الصبر وأنت تحاول عبثا إيقاف هذا النزيف! هل تتذكر القدر الكبير الذي كانت تطبخ به جدتك يوم الخميس؟ عندما كان عطلة بعد يوم الأربعاء؟ تخيله مملوءا بالحساء الذي تنتشر فيه قطع اللحم والخضروات والبطاطا ! تخيل أن هناك شيئا في قعر ذلك الجدر تغطيه طبقة سميكة وعليك الوصول لهذا الشيء و استئصاله؟!
هذا بطن مريضك مملوءا دما كالحساء والإمعاء تعلوه كقطع اللحم والنزيف خلف رأس البنكرياس وأنت لا ترى شيئا سوى وجه مساعدتك التي لا تعرف حتى كيف تمتص الدماء باستخدام جهاز الإمتصاص!؟ وتستذكر وجه أمه وأخته وهما يرجوانك إنقاذه ثم تتذكر أن أصدقاءك في رحلة حداق الليلة ولم تستطع الذهاب معهم لأنك خفارة! تُغلقُ عينيك لجزء من الثانية فتحس برغبة في نوم عميق فلم تنم منذ يومين حيث كانت خفارتك مرهقة جداً وتستذكر حنان وجه جدتك! فتلعن الساعة التي جعلتك فيها جراحا ثم تنتبه فستغفر ربك وتنشد منه العون فتزيح بإحساس يدك القولون من مكانه وتصل لموضع النزيف فتحسه بيدك ثم تصرخ أعطوني إبرة الم اتش پرولين رقم ٢ ثم تخيط النزيف دون أن تراه وتضع الفوط الجراحية وإذا بطبيب التخدير يصيح الضغط ١٠٠/٦٠ ! لقد أنقذت حياته!
ثم بعد شهر عندما حان موعد ذهابه الى منزله ليكمل حياته التي كانت ستقف وقوفا مفاجئا لولا تسخير الله لك له! ينظر إليك ويشكرك قائلا لن أنسى أنك أنقذت حياتي مغرورقةً عيناه بالدموع! وتبكي أمه داعية لك لطعام الغذاء يوما في بيتهم فترد عليهما وكأن شيئا لم يكن وكأنه شيء لا يهم:
لم أقم إلا بواجبي!
وجهك وأنت تتفوه بذلك آليٌّ جدا بصرامته وتقاطيعه القاسية!
فما إن يرحلا حتى تتهاوى أقنعتك… تذرف بعض الدموع تجففها بكُم معطفك الأبيض وتستغل شعورك هذا فتدعو الله أن يعطيك بعض الحياة في قلبك ليعود كما كان!
نعود لقهوتك ونسائم الهواء تداعبك وحيدا! وبرودتها تذكرك ببرودة قلبك في ذلك اليوم عندما أنقذت حياة ذلك الشاب ! فتتذكر ذلك ولا تشعر بالزهو القبيح بل تسأل الله أن لا يكون عملك إلا لشيء أسمى! فما قيمة العمل إن كان لا لشيء إلا لإشباع رغبة في نفسك بالشعور بالعظمة والإعجاب لن يصبح حينها ذلك العمل عظيما بل سيتساوى وأي عمل تقوم به لقضاء حاجتك!
هل تعلم ما هو أشهر عمل سمي بقضاء الحاجة؟
نعم…. بالضبط…. أنت لم تتغرب وتفني حياة إنسان في تعلم الطب والجراحة حتى تقضيَ حاجة!
هل تريد أن تكون ممن ينقذ حياة إنسان ويرحل لمقهى فيجلس وحيدا متفكرا يستخلص الحكمة مما فعل؟ ولن تستخلص الحكمة إلا بعد أن تفعل عظيما في أعين الناس ثم تستصغره في نفسك؟ عندها تصبح حكيما وذلك معنى الطبيب الحقيقي ألا ترى أن العرب
أسموا الطبيب بالحكيم؟
كنت تسمع عن أبي فراس الحمداني البطل الشهير الذي من فرط شجاعته ترك كل أماكن الصيد فلم يصطد إلا على الحدود مع الروم التي كانت دولة ابن عمه الحمدانية على صراع معهم فاحتوشوه من كل جانب ولم يهرب فقبضوا عليه وعندما عاد من سجنه تنكرت له حبيبته وأظهرت أنها لا تعرفه!
تسائلني من أنت وهي عليمة وهل بفتى مثلي على حاله نكر
فقلت لها كما شاءت وشاء لها الهوى قتيلكِ
قالت أيهم فهم كثر؟!
كانت غاضبة منه لأنه سمح لهم بأسره فغاب عنها!
هل سمعت عن هذا البطل العاشق؟
أتريد أن تذهب لتصطاد الموتَ كل صباح؟ وقد تظفر وقد تخسر؟
و إن خسرت لن تؤلف شعرا بل سيلومك الناس جهلا وسيقولون هذا الجراح الذي قتل فلانا! وأنت ما قتلته فقد قمت بعملك على أكمل وجه لكنها إحدى المضاعفات المعروفة بعد العملية التي قمت بها!
أنت صياد الموت كأبي فراس بل وأشرس فخسارتك أمضى وأفتك وأمر من خسارته!
لن تعيش شيئا من هذا الذي سبق ان اخترت مهنة طبية سوى الجراحة العامة وتفرعاتها!
فاختر عيشا كفارس مع ظلال الموت أو عيشا هنيئا في أي تخصص طبي آخر!
د.جمال ابدع في نسج هذه المقاله . انا من متدربي اخصص الجراحة العامة واكاد اعي ما وصفت مع انني في بداية التخصص شعرت بصعوبة الوضع والتعب ولكنني الان استمتع بع لانني بدأت الاحظ نتائج التعب اللي تكون محفزه ومريحه للنفس
وفقك الله وجعلك افضل جراح
عميقة هي مشاعرك
رقيقة هي أحاسيسك
ورائعٌ أنت في سردك
وفّقك الباري وأنار دربك
* أنت بقولك تُحفّزنا وترغّبنا لتُخرِج منا جرّاحين بشغفٍ يُشبه شغفك،
فقد لامستَ أوتار قلوبنا بكلماتك
ألف شكراً
دُمت متميّزاً
شكرا أختي على تعليقك وذوقك
إحساسات رائعة سطعت من خلف معاني كلماتك لمستها و عشتها
جعل الله دروبك نحو العلياء في الآخرة و الدنيا
و جزاك عن كل لحظة اجتهدت بها أضعافا مضاعفة من الأجر الجليل و الخير الجزيل
فعلاً مثال يحتذى به
شكرا اخت شيخة
مقاله اكثر من رائعة. تستحق أن تشارك بها أطبائنا
أتمنى اني أعيش الحظات هذي
الله يوفقك و منها للأعلى
رائع يا دكتور ❤