في رثاء بعضٍ من قلبي

في محضر من يرحل لا تملك شيئا سوى أن تقف أمام ذكرياتك معهم صامتا فلا أجل من لغة الصمت إنها لغة الوداع ولسان الجلال وحديث العشق!

تنفخ في هذه الذكريات روحا حتى يدُبَّ فيها الحنين!

إن الحنين مخلوقٌ تعجنه يد العشاق بزفراتهم ودموعهم وتحييه الذكريات! ما أجملها وما أقبحها في آن واحد فجمالها في لذة الحنين وقبحها في علمك أنها لن تعود فكيف تعود الذكرى مع من هم تحت التراب إلا عند مليكٍ مقتدر؟

وأقسى الذكريات كذلك هي ما لم تشتمل على الوداع! هي التي تجعلك تتحسر على أنك لم تبح بما في قلبك لمن رحل!

رحل السيد موسى بهبهاني اليوم صباحا بعد صراعٍ مرير مع السرطان! هناك سرطان وهناك سرطان آخر! و رغم أنني رأيت مئات حالاتٍ من السرطان كان مرض السيد مختلفا كان قاسيا عليه وشديدا حتى علاجه الجراحي كان متعبا جداً!

يقولون المرض ابتلاء يمحي ذنوب الإنسان! فإذا كانت هناك درجات للمرض فلا شك أن مرضه كان أعلى ابتلاء ولا أشك للحظة أنه التقى ربه اليوم قرير العينِ مطمئنا! هذا الرجل لم يكن مؤمنا فحسب بل كان قبل كل ذلك رجلا شهما مقداما فارسا شجاعا! كان يحمل كل صفات المروءة فإن شئت أن تبين معنى المروءة الذي يصعب شرحه في هذه الأيام بالذات كنت تشير الى السيد موسى وتقول هذا معنى المروءة!

تجلى ذلك حتى في علاجه! حين زرته في مستشفاه بتورنتو بعد أسبوعين من عمليته الكبيرة والمعقدة جداً كان جالسا كملك على عرش لا مريضا على كرسي مرض! مرفوع الهامة أشم الأنف صبورا محتسبا! غالبت دموعي حين رأيته وأنا ملك مغالبة الدموع! فكنت أمزح معه كثيرا قلت له ستُشفى ونعود في ديوانك العامر الكل مشتاق إليك!

كل إجازة حين أرجع للكويت أزور يوميا ربما ديوانه! وكان حديثه دائما مشوقا عن كل شيء! كان حلو المعشر ساحرا يأسر قلوب الناس ولم أرَ أحدا يكره ذكر سيرة شخص في غيابه مثل السيد موسى! كنا نلعب الدومنة وكان هو شريكي باللعب وكنا نتحمس دوما لهزيمة عمي عبدالحميد جمال بهذه اللعبة حيث كان يكره ذلك وكان هو يتحمس جدا حين اللعب رغم أنه دوما يتهرب من اللعب ضدي حيث كنا نملأ الديوان صخبا حين نهزمه! بآخر مباراة لي ضد عمي كنا نلعب قريبا من حمام السباحة فأتيت بكيس معي! وعندما هزمت أنا والسيد موسى عمي عبدالحميد أخرجت لباس السباحة من الكيس وقلت لعمي:
أنت مهزوم بهذه اللعبة اذهب للسباحة فهذا أفضل لصحتك!

ذكرت السيد بهذه المباراة وقلت له حين ترجع سالما سنباريه مرة أخرى ونحتفل بالفوز مرة أخرى!

انتقل السيد موسى الى منزله العامر الجديد فكنت كلما خرجت من الديوان أتظاهر أني أضعت طريق العودة فأسأله: سيد مشالله البيت وايد عود الواحد يضيع فيه! فكان رواد الديوان يضحكون وكان هو يردد: إذكر الله! وفي مرة سألته إن زار قصر الحمراء بغرناطة فقال لا لم أزره! فقلت له: عجيب أنك لم تزره وتصمم بيتك على طريقته! فضج الحاضرون بالضحك وقال لا بالله راح البيت!

عندما زرته بتورنتو بالمستشفى قلت له أجر وعافية عين ما صلت عالنبي كله من البيت فأشار بإصبعه لي مازحا وضحك قائلا كله منك!

رغم أنني جراح سرطان وأنني دوما بديوانه فلم يخبرني أنه قبل ثلاث سنوات كان هناك ورم بفمه أخذ الأطباء بالكويت منه عينة وقالوا له لاتقلق هذا لا شيء! كبر الورم هذا الصيف فسمعته بالديوان يتحدث أنه سيذهب لعملية جراحية! قلت له سيد شالسالفه! فأخبرني بالتفاصيل فرفعت السماعة على أخي الذي لم تلده أمي جراح الفم عبدالعزيز الموسوي الذي أتى للديوان فورا والتقى به لأول مرة وأشار عليه بالذهاب لكندا وعدم إجراء العملية بالكويت! عبدالعزيز الذي التقاه لأول مرة أحبه حتى بكى حين رآه بعد رحلة العلاج!

لماذا لم يخبرني بمرضه قبل ثلاث سنوات؟! لأنه ملك بلا عرش! لأنه أتى إلى هذه الدنيا خفيفا لم يُثقِل يوما على أحد! لأنه من نوادر الدنيا أن تلتقي برجل كهذا الرجل! لأن مثل أولئك الرجال غرباء يأتون فيرحلون دون صخب!

كان ساحرا لكن سحره يتجلى بالقلوب فقط! حتى جراحه الكندي الذي هو من أشهر جراحي العالم بالفم عندما أخبرني بعودة سرطان السيد بعد العملية كان يغالب دمعه! قال لي هذا رجل عظيم لم ألتق إلا نادرا بمن هم على شاكلته! لقد أحببناه كلنا!

إن أكثر ما يؤلمني أنني لم أستطع أن أنظر في عينيه وأقول له ما بقلبي:
أنت كوالدي الذي يحبك كثيرا فكنت رفيق دربه! أنا حين تحدثت أمام الجموع كان لا يهمني وجود أحد إلا أنت ووالدي فكنت أخجل من الحديث أمامكما!
وأنا على يقين أن مقعدك بالجنة فلا تنساني واذكرني!

لم أستطع البوح بما في قلبي حتى لا يُمحى الأمل بقلب أحبتك بالشفاء! كنت أشعر بالعجز كثيرا حين أحدثك وأتحدث مع أبنائك! ما أكره الشعور بالعجز!

أرجو أن تقرأ كلماتي هذه الآن فتغفر لي عجزي! فإنك لم ترحل! كيف يرحل من لم يحن موعده؟
أرأيت الشمس تغادر يوما قبل حينها؟
أرأيتها تغادر وسط النهار لا آخره؟

20130426-003149.jpg

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s