يا ليتهم يعلمون

هو طويل القامة جميل الطلة به خشونة لا بد منها لتكتمل المرجلة، ليس من أولئك الذين يعشقون الحديث ولفت الأنظار، لكن عمله كجراح متدرب في مستشفيات الكويت وإخلاصه رماه بدائرة الضوء ليس بمنتصفها بل قريبا منها.
كان يستمع لإذاعة البي بي سي الإنجليزية صباحا وزجاج سيارته مليء بندى الصبح او أبخرة قهوته السوداء لا يعيش هو من دونها. سنوات دراسته بإيرلندا علمته حب القهوة (الغير أيرلندية) طبعا وصقلت لغته. أقسم أن لا يغترب مرة أخرى فقد أثرت الغربة الأولى على الكثير من علاقاته. جدته التي ربته بعد وفاة أمه بسرطان الثدي ببدايات الثلاثينات من عمرها أصبحت امه الثانية وربما الأولى، كم تغيرت علاقته معها لإنشغاله بالجراحة والدراسة، أصدقاؤه لم يعد يجد الحرارة ذاتها معهم فدوما ما يختلقون الأعذار ليبرروا انشغالهم عنه، رغم أنه ليس من النوع اللوام بالتعبير الخليجي الذي (يتشره). لذلك لم يشأ أن يتخصص بالجراحة بأمريكا وكندا ليحافظ على ما بقي له من حب رغم أنه كان الأول على دفعته بإيرلندا. ما الفائدة أن تعيش حياة طويلة مليئة بالنجاحات وصخب المصفقين الغرباء دون لمسة حانية دون قبلة ممن يفديك بروحه… دون حب خالص!
كما أن أحد معلميه الپروفيسور مكڤيرسون الجراح الإيرلندي الشهير نصحه قائلا أن التدريب الجراحي أفضل إن كان ببلدك فالأمراض تختلف من دولة لأخرى والإمكانيات كذلك، ما الفائدة أن تتخصص بأعقد العمليات ثم إن جاءك مريض يحتاجها تحوله للعلاج بالخارج؟!
ما الفائدة أن تشتهر بخبرتك في سرطان البنكرياس بأمريكا بينما لا توجد حالات كثيرة من هذا السرطان بالكويت؟!
بدر كان واضحا في رؤيته واختار التدريب في مستشفى به أفضل الجراحين الذين تدربوا في البورد الكويتي. التدريب معادلة يتفاعل فيها برنامج التدريب بالعمليات والمحاضرات مع المتدرب نفسه. ليس كل من تخرج من أوكسفورد طبيب بارع، بينما يوجد من تخرج من الكويت أو السعودية وهو أفضل بكثير من ٩٠٪ من خريجي أوكسفورد!
بدأ صباحه بالمرور على المرضى أحدهم جدته الأثيرة فقد أصابها سرطان بالمبيض أو القولون لا يعلم الأطباء من أين أتى لكن ذلك لا يهم، لأنه انتشر ببطنها كله وكبدها ويشتبه انتقاله لمنطقتين بالرئة! هذه أيام جدته (أمه الثانية) الأخيرة فالكل يعلم ذلك و أولهم هو، عندما ينظر في وجهها قبل ان يترك الغرفة يمعن النظر فيها طويلا حيث لا يدري ربما تكون تلك آخر نظرة لها على قيد الحياة. مريضه الآخر شاب بجناح الرجال أصابه سرطان معدة احتاج استئصاله وهو الآن بيومه الرابع بعد العملية لكن صفائح دمه منخفضة قليلا لذلك قد يحتاج كيسا او كيسين من الدم!
انتهى من مروره، قبل رأس جدته، سألته إن أفطر و على ماذا أفطر؟ رد عليها بابتسامة حزينة: كنت مستعجلا ومتحرقا لرؤيتك فلم أفطر إلا على القهوة! صبت الجدة جام غضبها على بنات هذه الأيام التي تنتمي زوجته العشرينية إليهم كيف لا يجهزون طعام الإفطار لأزواجهم؟! قبلها بدر مرة أخرى ذاهبا لعملية الصباح بعد أن وجد بعض الأعذار لزوجته.
هذا الحب الغير مشروط من أين يأتي؟ أن يحبك أحد لأنك أنت أنت في كل حالاتك الجميلة والسيئة هذا حب إلهي ألقاه الله في قلب الأمهات والآباء حتى نعرف الله ونعرف مقدار حبه لنا
العملية كانت تحويلا لمسار القناة المرارية التي تربط الكبد بالإثنى عشر بسبب جرح سابق أصاب المريض خلال عملية لإستئصال المرارة قبل سنتين، كان يقوم بالعملية مع الإستشارية التي حصلت على زمالة الكبد والبنكرياس من أمريكا. هذه الإستشارية على مشارف الأربعين، فاتنة جداً لا شيء يفوقها فتنة سوى حركة يديها وهي تجري عمليات جراحية معقدة كما أنها راقية ومهذبة جداً وكأنها خرجت من صالونات النمسا منتصف القرن التاسع عشر! إلا أن البشر لا يرحمون أحدا أبدا فقد سمع قبل يومين إشاعة أنها تستدعيه لغرفة العمليات ليس لشطارته بل لجاذبيته. تمنى بدر كثيرا أن لا يصل ذلك لزوجته فهي حساسة وكثيرا ما تشتكي من عمله المضني الذي يجعله بعيدا عنها دوما وعلاوة على ذلك يجعله على مقربة من الجنس الآخر من ممرضات وطبيبات حسناوات
وغير حسناوات.
هو ترك هذه الميادين لأهلها منذ زمن بعد أن تيقن أن هذه الرغبات لا فائدة منها إطلاقا فنهاياتها دائماً خاسرة كئيبة حاسرة!
كجراح يقوم بعملية جميلة وأداء مبهر لمريض يموت بنهاية العملية ما الذي استفاد الجراح بجمال حركاته غير سمعة سيئة أنه قاتل للمرضى!

كالواقف على سكة قطار سيأتي القطار عاجلا أم آجلا ليصدمه، هكذا هو الحب خارج الزواج!
بدأت العملية فقام بنزع الإثناعشر من مكانه برقة ثم بدأ بتنظيف الأنسجة ليجد القناة المرارية، هذه منطقة خطرة فخلف القناة المرارية يجلس الوريد البواب الذي لا يرحم إن جرحته ولو خطأ! وكذلك بجانبها شريان الكبد. أفلح بإيجاد القناة بعد حركة بزاوية حادة اخترق فيها بإحساسه فقط المساحة بينها وبين الوريد البواب، ثم فصل الإمعاء الدقيقة وجلبها ليوصلها بالقناة المرارية فوق منطقة انسدادها. أبهر بعمله هذا الإستشارية فأثنت عليه، حتى بأمريكا عندما كانت بمستواه لم تكن لتقوم بهذه العملية بالبراعة التي قام بها بدر!
انتهى من العملية متجها للجناح فهناك مريضة تشتكي، كلما حاول شرح الوضع لها و إجابتها قطعت كلماته قائلة (أنتوا دكاترة الكويت ماتعرفون شي، مادري كادر على شنو، دزوني بره)!
ما الحل مع مريض إن غابت الثقة؟! لم يعلمونا ذلك بكلية الطب! أعمل أنا ليل نهار ليس من أجل المال كما يظن البعض أو السمعة! هذا صديقي يوسف لا شهادة لديه لكنه لم يقض سبع سنوات في الطب ولذلك أصبح رجل أعمال ناجح جداً!
‏يوسف هذا يمزح مع بدر أحيانا قائلا: شرايك أشغلك معلم شاورما بأحد مطاعمي وأعطيك دبل معاشك! العرض بدأ يغري بدر أثناء سماعه لشكوى هذه المريضة! معاش دبل من دون خفارة ومن دون ناس ما تقدر أشرف وسأستطيع تحمل شماتة يوسف وربع الديوانية!
‏‫معاش دبل من دون خفارة ومن دون ناس ما تقدر أشرف وسأستطيع تحمل شماتة يوسف وربع الديوانية! يدور ذلك في ذهن بدر وأخ المريضة يؤيدها بما تقول!
نعم الوقت الذي يسرقه الطب منك كثير جداً لو استثمرتها بغيره لأصبحت ذا مال وفير! عباس صديقه الآخر تخرج من العلوم السياسية وهو يعد نفسه لإنتخابات مجلس الأمة فقد سنح الوقت الوفير المتاح له بأن يكون على علاقة جيدة وعديدة مع مختلف شرائح الناس. من يدخل الطب للمال والجاه والسمعة قد اختار طريقا خاطئا حتما! نظر للمريضة واعتذر رغم عدم وجود أي خطأ واتجه لإكمال مروره!
الليلة هو مسؤول المناوبة الليلية وذلك نظام غريب بالكويت يختلف عن المناوبة العادية! فالطبيب الكويتي يكون مناوبا كل رابع يوم لمدة ٢٤ ساعة لكن كل يوم بعد انتهاء العمل بالثانية ظهرا يصبح أحد أعضاء الفريق مسؤولا عن المرضى حتى اليوم الذي يليه رغم انتهاء
عمله. كل هذه الساعات الإضافية من دون أجر أي تطوع بحت!
كان يتألم بطريقه إلى المنزل على جدته وظروف العمل والمريضة (اللي ما خلت فيه طيب) وتذكر ابن عمه (عزوز) الذي جلس معه ليأخذ مشورته بالدخول لكلية الطب، سأله بدر: لماذا ترغب أن تصبح طبيبا! قال عبدالعزيز: ( تبي الصج حلمي ألبس هذا لبسكم الأزرق شتسمونه سكربز)! أراد بدر حينها أن يرميه ب (مطارة الشاي)!
دخل بدر منزله بالثالثة والنصف عصرا، ابنه كان جائعا وزوجته فتناولوا الغداء في الواحدة ظهرا. نظر لطعامه فلم يشتهيه فمنذ أن دخلت جدته (أمه) المستشفى وهو هكذا. استلقى على فراشه ثم صحى في السابعة على مداعبة ابنه كان مشتاقا له كثيرا! شرب قهوة المساء وإذا بالهاتف يرن وممرضة الجناح ناهد على الطرف الآخر منه من هاتفها النقال! زوجته نظرت إليه بشزر! ناهد تطلب منه ان يأتي للجناح فورا فمرض جدته بازدياد وأنفاسها تتسارع! نأتي إلى الدنيا بجزع بأنفاس تسابق الريح وقلب قلق ثم نقع بغرام ما جزعنا منه فلا نرغب بالفراق!
وصل للجناح عمته، أبيه وكل أعمامه كانوا هناك، فحص جدته فاستنتج أنها تحتضر، تماسك لكنه لم يستطع مغالبة دمعه الذي تسلل إلى محجريه فأصبح وجه جدته الشاحب من الموت كبلور ساطع!
سألته جدته خائفة ما الذي يجري؟ صوتها كان متقطعا جداً فأنفاسها لم تترك للصوت مساحة أبدا! قبض على يديها وشرع يقرأ سورة ياسين المفضلة لديها كانت جدته تعطيه دينارا كاملا ان قرأ لها نصف سورة يس عندما كان طفلا فحفظها مع أحكام التجويد! هذه السورة الوحيدة التي تحتوي كل أحكام التجويد!
أتت الممرضة للغرفة واستدعته! نظر إليها بغضب! قالت له إنه مريض غرفة ١٠! ماذا به؟! ردت الممرضة:( أعطيناه كيس دم وما إن بدأنا بضخ الدم قل الأكسجين بدمه وتسارعت أنفاسه وارتفعت حرارته كما بدأ يحس بالإختناق)!
هذه أعراض حساسية قاتلة ربما لديه مضادات دم نادرة أنتجها للتو! قد يموت هذا الشاب الذي كان من المفترض ان يكون مع أبنائه بمنزله غداً! قطع سورة يس بآية ( يا ليت قومي يعلمون، بما غفر لي ربي وجعلني من المكرمين) متجها لغرفة ١٠ وهو يلتهم جدته (أمه) بعينيه! مرة أخرى استحال وجهها كبلور ساطع عندما اغرورقت عيناه بالدمع! هل هذه آخر نظراتي لكِ؟ تمسكي حتى رجوعي؟
بالفعل كان المريض يتنفس بصعوبة! أخته وزوجته كانوا هناك! بدأوا بالشكوى! ( كيف تعطونه دما خاطئا) ؟! أراد ان يشرح لهم أنهم لم يعطوه دما خاطئا لكن مثل هذه الحساسية قد تحدث بأي وقت! لم يكن لديه متسع من الوقت بدأ يعالجه وهم يتذمرون فوق رأسه!
اتصل بوحدة الباطنية و الإنعاش فتنفس هذا المريض قد يقف في أي لحظة! أعطاه جرعة عالية من الكورتيزون والبينادريل والإپينيفرين ووضع قناع الأكسجين على وجهه! استمر بمراقبة الوضع وجهز عدة التنفس الصناعي تأكد من سلامة الأجهزة، يجب أن يظل معه حتى يتأكد ان تنفسه لن يقف بسبب ضيق الشعب الهوائية. طيلة ذلك الوقت كان نساء المريض يلومونه: كيف تعطونه دما خاطئا! تسمون أنفسكم أطباء! وهو صامت يقوم بعمله بكل مهارة ودقة وإتقان، يقوم بعمله بعقله هنا وقلبه مع جدته (أمه)، سيعود ليودعها ويترك بعضا من قلبه معها! الوداع هو استيداع جزء من قلبك مع من تعشق لذلك تحن أنت و يحن قلبك أكثر إلى اللقيا من جديد!
يستمر بمعالجة المريض وقلبه مع جدته (أمه) كانت مطمئنة معه فهو الحبيب والطبيب بآن واحد! أبناؤها قد يعطونها بعض الحب الآن لكنها لن تطمئن كما لو كان هو معها.
بدأت حالة مريض غرفة ١٠ بالتحسن مع وصول طبيب الإنعاش والباطنية، استغرق كل ذلك نصف ساعة. ترك الغرفة متجها لجدته! وإذا بصوت بكاء يعلو، رأى وجه أبيه مكفكفا دمعه.
رحلت جدته دون أن يكون معها بلحظاتها الأخيرة!
هناك متسع في الحياة لكل شيء إلا للوداع وهناك عذر لكل شيء إلا أن تغيب عن حبيبك حين الوداع!
رمى نفسه عليها مقبلا رأسها ووجنتيها معفرا رأسه بجيدها لازال دافئا كما كان يذكر عند طفولته! شريط الذكريات يمر و حسرة شديدة على كل لحظة غاب فيها عن اهله بسبب تخصص الجراحة اللعين لكنه استذكر آخر ما قاله لجدته؛
(يا ليت قومي يعلمون، بما غفر لي ربي وجعلني من المكرمين)

ليس كل الأطباء كما تتصورون!

15 رأيا حول “يا ليتهم يعلمون

  1. جدا جدا … الله يعطي العافيه لجميع الدكاترة المجتهدين و المخلصين لعملهم
    روي عن الرسول صل الله عليه و آله وسلم : قال تعالى: اﻹخلاص في العمل سر من أسراري استودعته قلب من أحببت من عبادي

  2. وقسما بالله انك مبدع يا بوعلي، روح عيني عليك بارده، ورب الكعبة اني ماحب اقرا ودايماً اتملل.. من قريت المواضيع مو قادر اوقف..

  3. قد يعاني الأطباء كما يعاني المرضى واكثر لكنها طبيعة الإنسان وانانيته احيانا هي التي تحكم تصرفه… سلمت الأنامل التي عبرت بما في قلوب الكثير

  4. دكتورنا الغالي مع انه ما عندي وقت انشغل بشيء غير الدراسة الا أني استمتع بمواضيعك الجميلة تسرق الوقت مني بلا شعور سلمت الأنامل كتبت فأبدعت .. نعم أطباء الكويت ما يستاهلون التحبيط وانعدام الثقة بينهم وبين المرضى لكن ( يا ليت قومي يعلمون )

    تحياتي 🌹🌹

  5. وربي قمممة بالإبداع دكتور ، ربي يعطيكم الصحة والعافيه ويآجركم على تعبكم وأكثر ، دكتور تسمح لي باقتباس بعض العبارات من القصة؟

  6. Mashaalllaaahh!!! الله يعطيك الف عاافيه دكتوور

    اتسائل ليش ليلحين ما سويتلك كتاب؟

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s